الناصورائيّة التوحيديّة والأديان الثنويّة
هذه المقالة مُكمّلة إلى مقالة “الناصورائيّة والمندائيّة ..وليس الغنوصيّة” (مصدر) والتي قلنا فيها بأن نعت الدين المندائي بالغنوصيّة التي تعني العرفانيّة, هي كلمة حق أريد بها باطل, ولكي يجمعوننا مع حركات دينيّة وهمية مستحدثة من اليهوديّة من مخطوطات البحر الميت المزورة, ومع الحركات المسيحيّة الأولى ومع المانويّة.
وكذلك قلنا بأن جميع الحركات الدينيّة التي يسمونها بالغنوصية, هي تعترف بألوهية المسيح بينما لا تعترف الناصورائية سوى بالحيُّ العظيم إلاهاً واحداً.
وفيما يلي تكملة للإختلافات الجوهريّة بين الفلسفة المندائيّة وبين الحركات الدينيّة الهجينة التي يسمونها بالغنوصيّة.
2. أنّ تلك الحركات الدينيّة الغنوصية وحتى الزرادشتيّة (المجوسيّة) الأقدم منها, هي ثنويّة أي تستند على تعريف أساسي بوجود إلاهين منذ الأزل أحدهما للخير والآخر للشر, وبأن الكون قائم على أتحاد هذين الإلهين الذين تكوّن منهما الكون وهما بصراع دائم. ولكن هذه الفلسفة بعيدة عن المندائيّة, فلو عُدنا إلى النصوص المندائيّة فسوف نجد بأن الله الحيّ العظيم, هو القوّة الأحاديّة والمركزيّة في الكون والتي لم يكن ولن يكون لها نظير أو شريك, وكذلك بأن الخَلق للكون وللكائنات كان قد تمّ بأمره وبتدخّل مباشر منه.
فهو الذي كان قبل كل شيء, وهو الذي خلق كل شيء ولم يكن من إله آخر يشاركه أعماله, لا من قوى الظلام, ولا حتى من الملائكة والذين هم أيضاً يُخلقون بأمره لينفذوا تعاليمه ووصاياه. كما وأنّ النّور أقدم من الظلام الذي هو رمز الشر, وهو يوصف بأنه عالم فاني وعالم للفانين أي ينفي عنهم صفة الإلوهيّة الخالدة وهذا هو جوهر مبدأ التوحيد.
فحسب الفلسفة والنصوص المندائيّة فأن الله هو الواحد الأحد وهو الذي أنبعث من ذاته “اد من نافشي أفرش” ولم يكن له من شريك.
أنَّ الثنويّة ضمن النصوص المندائيّة تدور حول الإنسان نفسه وليس حول خالقه, فهي تكون عن الخير والشر و النور والظلام هي تتحدّث عن الصراع الذي يدور داخل عقل الإنسان, والذي هو حُر تماماً في أختياراته وبالتالي يُقرر إن كان سوف يسلك طريق النور أو طريق الظلام, ولكن للأسف فأن الباحثة دراور كانت قد كَتبت عن هذا الموضوع بصورة فيها لَبس بسبب عدم معرفتها الكاملة بالمندائيّة ففي النهاية فهي باحثة مستشرقة ذات معلومات من خارج المندائيّة وجزئيّاً من النصوص المندائيّة, وكذلك بسبب تأثرها ربما من قراءاتها السابقة للزرادشتيّة فخلطت بينهما, ولهذا تَبعها مجموعة من الباحثين من المندائيين ومن المستشرقين الذين يأخذون كل ما كانت قد كتبته على أنه حقيقة في الفلسفة المندائيّة.
وفيما يلي بعض من تلك النصوص التي تؤكد على وحدانيّة الخالق على العكس من الديانات الغنوصيّة ومن الزرادشتيّة, التي تجعل له شريك ظلامي يعاديه وهو مساوٍِ له بالقدرة.
بوثة*1 “هو الملكُ منذُ الأزل ولايبطُل ملكوتهُ إلى الأبد ..
ملكُ النوُر. حاكم العالم. لازوال لمُلكه. المالكُ المُسبّحُ والموقّر.
ليس له أبٌ قبله، ولم يكن له ولدٌ بَعده.
لا أخ له يُقاسمه، ولاشريك لهُ يُنازعه.” الكنزا ربا اليمين المندائيّة (الأصلية مع المرفقات)
وهذه البوثة تُبين أصل فلسفة التوحيد المندائيّة وبكون الحيّ العظيم هو القوّة الوحيدة الأزليّة الأبديّة وهو الخالق الوحيد للكون.
بوثة*2 “هو العظيمُ الَّذي لايُرى ولايُحَدّْ (11) لاشريكَ لهُ في سُلطانِهْ, ولاصاحبَ لهُ في صَولَجانِهْ …. (18) الأوَّلُ منذُ الأزَلْ. خالقُ كلِّ شيء” الكنزا ربا اليمين طبعة بغداد ص2
بوثة*3 “أنا رسولُ النُّور (27) الواحدُ العظيمْ (28) الأحَدُ العظيمْ (29) أرسلَني لهذهِ الدُّنيا” الكنزا ربا اليمين طبعة بغداد ص34
بوثة* 4 “الخِزيَ والعَارَ لِكُل مَن لايعرف ولايعلم بأن ربنا هوَ مَلكُ النور الواحدُ في العلياء” يهيا يهانا -دراشا اد ملكي (الأصلية مع المرفقات)
وأسماء الله الحُسنى “الواحد” تعني المُتفرّد الذي لا نظير له, وفي العلياء أو في السماء تُشير إلى كونه قد تفرّد بسموّه فوق الجميع وفي جميع صفاته وهو ما يُقابل أسم الله “الأحد” في العربيّة.
بوثة* 5 ”هيبل زيوا -فتحدّثت وقُلت له:
السلامُ عليكَ يا ملك الظلام البِكر كرون جبل اللّحم الكبير
…
فتحدّث هو وقال لي:
أنتم أبطال ونحن خاضعون
أنتم آلهة ونحن بشر
أنتم عُظماء ونحن صِغار” الكنزا ربا اليمين المندائيّة (الأصلية مع المرفقات)
وهذه البوثة رقم 5 هي من النَص الخاص بنزول المُخلّص الذي أرسله الحيّ العظيم لدحر قوى الظلام (الشر) ومن الحديث يتم توضيح ماهيّة قوى الشر, وأنها تعني عالم البشر والمتسلطون الأشرار فيه هم ملوك عالم الظلام. وأمّا الكائنات الشريرة الأخرى مثل الجن والشياطين والمردة والعفاريت والليلياثا وغيرها من المخلوقات التي يتم التعوّذ منها في المندائيّة, وهي نفسها التي كان يتم التعوّذ منها من قبل البابليين والسومريين! فتلك كانت قد وُضعت موضع أضعف من البشر حسب الفلسفة, وهي تتبع تأثيرات الكواكب (السبعة الشبياهي) التي تُسلطها على البشر لغرض الغواية أو التخويف, فيكون تدخّلها ليس مُباشراً لأحداث الفعل, وإنما عن طريق التأثير النفسي على الإنسان, كما وأنها ليست آلهة, وإنما هي من المخلوقات التي ناداها بثاهيل من دون أن يُسمح له بذلك, فخالف تعليماته, وتمّ عَزله بسبب هذا الخطأ.
بوثة* 6 “نادِ بثلاثةِ أصوات: (١٢) بالصَّوتِ الأوَّلِ تتكثَّفُ الأرضُ وتَنبسطُ السَّماء. (١٣) بالصَّوتِ الثاني يَترقرَقُ الماء. وبالصَّوتِ الثالثِ تنهضُ الأشجار، وتطيرُ الأطيار، وتَسبحُ الأسماكُ في البحار ..وتَمتلئُ الأرضُ بالحَيوان، من جميعِ الألوان.” الكنزا ربا اليمين طبعة بغداد ص290.
بوثة* 7 “وبندائي الثالثِ نَهَضت الأشجار (٦٠) وسبَحَ السَّمَكُ وحَلَّقَت الأطيار(٦١) وانطلَقَت الحيواناتُ في الغاباتِ والقفار” كنزا ربا اليمين طبعة بغداد ص293
بوثة* 8 “ثمَّ ناديتُ نداءً سادسا.. فانطلقَتْ مخلوقاتُ الظلام (٦٤) ونداءً سابعاً نادَيت.. وقفَت بهِ الرُّوهَةُ وأبناؤها السَّبعةُ على أبوابِ البَيت.” الكنزا ربا اليمين طبعة بغداد ص293
أي أنه نادى تلك المخلوقات العديدة عدى الثلاثة أصوات التي طَلَبَ منه أبوه أباثر أن يُناديها حين أرسله
بوثة* 9 “ومنحَهُ الرََبَُ اسماً حَيَاً بهِ تكلَّمْ. وبعمامتِهِ الطاهرةِ لَفَّ السِّرَّ الأعظَمْ.. بأطرافِها لَمْلمَه.. وإلى بثاهيل سَلَّمَه.” كنزا ربا اليمين طبعة بغداد ص73
هذه النصْوص المُقدّسّة حول خلق النبات والحيوان والمخلوقات الظلاميّة, وتَميّز الإنسان بالعقل والنشمثا عنها، كما ويُبين بأن الحي العظيم غَضَبَ على بثاهيل لأنه نادى سبعة أصوات, أي أنَّ بثاهيل هو الذي خلق مخلوقات الظلام والروهة وهو لم يؤمر بذلك.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
مقالة: الناصورائيّة والمندائيّة ..وليس الغنوصيّة (الجزء الأول)