العوالم رَمتني بالأحجار وإخوتي أغضبوني بالأقوال.
هذا مقطع صغير من إحدى التراتيل اليوميّة في كتاب التراتيل المندائي “النياني”, حيث يتحدّث أحد المُختارين الصادقين, ويقول عن نفسه بأنه العاني المُضطَهَد والمُبعد من الملكوت الأعلى, وذلك أن نَسمَته أصلها من عالم النور ووضعوها في الجسد الآدمي, ولهذا فهي تسعى للعودة إلى بلدها بعد أن يَكتمل قَدَرها في هذا العالم.
وحيث يَذكُر هذا المؤمن الذي ليس له هدف مادي في هذه الحياة, ولكن هَدفه السامي يكون بأن يُتمّ عمره بسلام وأن يُحافظ على تعاليمه وصدقه وإيمانه, وذلك أنه يقول الحقيقة ولايكذب, ويعمل زدقا وطبوثا وهي الصَدَقة والخير الطيّب للمخلوقات وللطبيعة.
تقول كتبنا الدينيّة ذات التعاليم الناصورائيّة, إن هؤلاء الأشخاص يُسمَونَ باهري الصِدق, فيكون لديهم لوفا واتحاد مع عالم النور فيَسمَعونَ ما يُنير طريقهم ويُستَجاب لدُعائهم وهذا هو الإيمرا وشيما أي القول والسَمع.
لقد كان هذا العاني باهر الصدق مكروهاً في عالمه, فحيث أنه يروي أنّ العوالم قد رَمته بالأحجار وذلك أنه كان يُدافع عن مبادئه العادلة وتعاليمه الإيمانيّة, وهذا لم يكُن ليُعجب الأعداء الذين يُريدون أن يقضوا على أفكاره النورانيّة التي تريد تحرير الآخرين من تسلطهم, وبنفس الوقت فهو يروي أنه برغم تعرّضه إلى الأحجار من العوالم الأخرى أو الأعداء, فأن أخوته أبناء الكشطا كانوا يُغضبونه بالأقوال, ولأنهم لا يرون ما كان هو يرى ولا يَسمعون ما كان هو يَسمع, ولهذا فكانوا يختلفون معه, ولأنهم مُغرر بهم من تلك العوالم الأخرى التي تَستعبدهم بدون أن يعرفوا ذلك, وتحولهم إلى أعداء لدينهم ولأهلهم ولبلدهم.
ولو نَذكر أنّ الشاعر المندائي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد, كان قد أفنى عُمره وهو يُدافع عن بلاد الرافدين أصل المندائيين ولم يكُن يَتوانى عن حَمل السلاح والقلم, وكل ما يَلزم في سبيل دَفع الهجوم الكبير لاحتلال العراق الذي كان الاستعمار يرسم له مُنذ الاستقلال عن بريطانياً, وبقي ثابتاً في موقفه حتى بعد أن ذُبح العراق ونُفي المندائيون منه.
“تهبّ كلُّ رياح الأرض عـــــاصفة
والنخل لا تنحنــــــي إلاّ ذوائبه”
لقد كان عبد الرزاق يَشعُر بهذا الخطر ولهذا فقد عاش ونَذَرَ نَفسه لبلده ومات وهو يَلهَج بذكره, فقال وهو على فراش الموت
“يا عراق هنيئا لمن لا يخونك.. هنيئا لمن إذ تكون طعينا يكونك..
هنيئا لمن وهو يلفظ آخر أنفاسه تتلاقى عليه جفونك”
للأسف فكانت هنالك قلّة من العراقيين ومنهم حتى بعض المندائيين كانوا يَكرهون عبد الرزاق, ولأنهم كانوا من أذناب الاستعمار, أو من الذين يُصدّقون الشعارات الفارغة التي كان يُطلقها باسم حقوق الإنسان وباسم الديمقراطيّة وباسم الطائفيّة! وغيرها من التلفيقات, ولكنها لم تكن لتنطلي على الناصورائي عبد الرزاق, فقال في قصيدته يا صبر أيوب عن تلك الدول ذات الشعارات الرنّانة :
“وكان ما كان يا أيوب.. ما فعلت
مسعورة في ديار الناس ما فعلوا
ما خربت يد أقسى المجرمين يدا
ما خربت واستباحت هذه الدول
هذي التي المثل العليا على فمها
وعند كل امتحان تبصق المثل!”
وربما يَسأل البعض كيف يُمكن أن يُعتَبر عبد الرزاق ناصورائي وبرغم أنه لم يكن في السلك الديني ولم يكن متديناً ملتزماً حتى؟ ولكن المَعرفة تأتي للشُرفاء وأصحاب المبادئ والمواقف الصحيحة, وكلٌ حسب علمه وعمله وثباته.
“ملائكةُ الضِّياءِ تُسبِّحُ لملكِ النُّور بالضِّياءِ الَّذي وَهَبَهُ إيّاهُم
ملائكةُ الضِّياءِ تُسبِّحُ لملكِ النُّور بأرديَةِ النُّور التي وهَبَها إيّأهُم.
ملائكةُ الضِّياءِ تُسبِّحُ لملكِ النُّور بأحزِمَةِ الضِّياءِ التي وَهَبها إيّاهُم ….” الكنزا ربا اليمين ص٤
فكل إنسان يكون ثابتاً في مبادئه يستطيع أن يتحلّى بجوهر النور والخير, وبقوله للحق هو يُساهم في بناء عالم أفضل ومثله الذي يُعطي مما وهبه ربه علماً وعملاً وثباتاً. وأمّا الذين يخافون من قول الحَق الذي تجلى وكان بيّناً لهم, وكذلك الذين لايٌساعدون الآخرين فهؤلاء يُعزَلون من رابطة الحياة.
ولهذا فسوف تبقى المَعرفة التي أتت إلى عبد الرزاق, والتي قالها درراً شعراً ونثراً لمئات السنين, ولكن مُنتقديه الذين كانوا مع مُعسكر الأعداء, فلن تَبقى لهم ذكرى ولن يَعرفهم أحد, ومَن يَعرفهم فلن يكترث بهم.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ