المُلتَحين المندائيين وهَيئة الأجداد
* “لكُم أقول أيُّها المُختارون, أياكُم أُعلّم أيُّها المؤمنون:
ألبسوا الأبيض واكتسوا الأبيض مثل ألبسة الضوء وأكسية النور, وضعوا عمامة بيضاء مثل الإكليل البهيج” الكنزا ربا اليمين
* ”أنتم أذهبوا وليكُن لِباسكُم الضوء وكسائكُم النور، ولتَكُن ضفائركُم مجدولة في رؤوسكم، وتُسَمَوّنَ برئيس سُلالة الحَيّ.” الكنزا ربا اليمين
* ”ماذا فعلت يا ياور كبار أبن منداادهيي، أنت الذي تَضفُر لنا الجدائل في رؤوسنا” الكنزا ربا اليمين
لقد كانت الهيئة المندائيّة عبر جميع العصور هي الملابس البيضاء وإطالة اللحى والشعور للرجال, وهذه هي الهيئة المُميّزة لهم, وهي ليست فقط انتماء ثقافي وإنما هي تعاليم دينيّة تدعو لارتداء الملابس والعمامة البيضاء وبإطالة الشعور واللحى, فكانوا يضفرونها دلالة على النصر وأنهم أناس أحرار وليسوا عبيداً!
مما لا شك فيه بأن المندائيين هُم أمتداد لسكان بلاد الرافدين القدماء, وأنّ جميع شرائعهم وعاداتهم وثقافتهم وفلسفتهم هي نفسها التي كانت موجودة لدى السومريين واستمرارهم مع البابليين والآشوريين.
فكانت الملابس البيضاء هي ما يرتديه طبقة الكهنة البابليين حسب شريعتهم الدينيّة, ومن شرائعهم وتعاليمهم هي أطلاق اللّحى من قبل الرجال الأحرار وحلقها للعبيد وللأعداء الذين كانوا يؤسرون خلال المعارك كدليل على إهانتهم وبأنهم لم يعودوا أحراراً, حيث أنّ اللّحية هي تمييز لمكانة الرجل في المُجتمع وتُمثّل رمزاً للحكمة والرجولة والشرف الرفيع, وفي بلاد الرافدين كانت طريقة تصفيف اللّحية تُعطي دليل على مهنة ومكانة الشخص في المُجتمع, وكان تصفيف لحى الملوك يأخذ أياماً.
وكذلك فقد كان الرجال من جميع الحضارات القديمة يُطيلون اللّحى باستثناء الحضارة الرومانيّة (1), الذين كانوا يَحرصون على حلاقة شَعرهم ولحاهم لكي يتميّزوا عن اليونانيين الذين كانوا يُطيلونها, ولكي لا يسحبهم أعدائهم منها في المعركة.
إن انتشار حلاقة اللحى والشَعر في العصور اللاحقة, هو بسبب هيمنة الحضارة الغربيّة عالمياً وليس لأسباب صحيّة أو للنظافة الشخصيّة, ولأن أطالة اللّحى هو أفضل صحياً من حلاقتها (2) حيث يحمي وجه الرجال من الأشعّة الشمسيّة الضارّة ويقلل الشيخوخة وينقّي الهواء الداخل للجهاز التنفسي من الغبار والأتربة وينظّم درجة حرارة الوجه صيفاً وشتاءا.
وقد بقي المندائيون على هيئتهم بالملابس البيضاء واللّحى والشعور الطويلة منذ آلاف السنين ولغاية بدايات القرن العشرين بعد دخول الإنكليز وتحرير العراق من العثمانيين. فلبسوا بعدها الملابس الغربيّة وحلقوا شعورهم ولحاهم لكي يندمجوا في الدولة العراقيّة التي تشكّلت حديثاً حسب المفاهيم الغربيّة, وتَذكر دراور في كتابها الصابئة المندائيّون في العراق وإيران بأن السلك الديني المندائي أصبح بخطر خلال منتصف القرن العشرين مع تحوّل أبناء السلالات الدينيّة الناصورائيّة عن الاهتمام بالأمور الدينيّة ولبسهم الملابس الغربية وحلاقة لحاهم, وذلك لأن رجال الدين كانوا يعانون الفقر الشديد مع تحوّل المندائيين عن دعم رجال دينهم, وبالمقابل فكان هؤلاء الأبناء من ذوي الذكاء والبصيرة الحادّة فأبدعوا في الأدب والعلوم ومنهم الدكتور عبد الجبار الشيخ عبد الله الشيخ سام والدكتور نعمان الشيخ عبد الشيخ جادر وغيرهم.
أمّا في عصرنا الحالي, فتَحرص وسائل الإعلام الغربية وهوليوود على تشويه صورة الثقافة والهيئة الشرقيّة والعربيّة, فجعلوا اللحى الطويلة مُرادفة لصفة الإرهاب والتطرف الديني أو التخلف والهَمجية, وكذلك ينتقدون أيّة هيئة وملابس تختلف عن الهيئة الغربيّة. ,ولكن لو كان المُلتحي أوروبي فتكون نظرتهم مُختلفة وبأنه حكيم وذو شخصيّة مجتمعيّة.
وبالنسبة للغربيين فهم يُصدّقون كل ما يقوله لهم إعلامهم الذي يَمتلكه الصهاينة ويسيطرون من خلاله على تلك المجتمعات.
أن كثير من الثقافات والديانات لهم هيئتهم الخاصّة التي يعتزون بها ويحتفظون بها ولا يُغيرونها أينما ذهبوا وهاجروا, وحتى مع وجود هذه المُضايقات, وذلك لأنهم أوفياء لدينهم وثقافتهم.
وكذلك المندائيون فلا يزال بعضهم على الأقل باقي على هيئة الأجداد وعلى التعاليم الدينيّة, فيطيلون لحاهم ويرتدون الأبيض وحتى لو كان غطاء الرأس فقط, مُحتملين ما تعنيه هذه الهيئة من تمييز وعنصرية ضدهم.
فتحيّة للمندائيين المُلتحين الذين لم يغيروا تعاليمهم وبقوا على هيئة الأجداد, ومن كان قادراً عليها فهي تُحسب له بكونه ملتزماً بالتعاليم الدينيّة, بالإضافة لكونها أستعادة للهويّة المندائيّة التي أخذتها الثقافة الغربيّة معها.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
المصادر
1. مقالة: شعائر وطقوس حلق للحى في تاريخ الحضارات القديمة