تجارة البحوث والفول والفلافل
في كل فترة يخرج لنا أحد الباحثين الذين يُطلقون تصريحات نارية كبيرة تتلاعب بتأريخنا وبأدياننا فتارة تنسبها إلى ذات اليمين وتارة إلى ذات الشمال, وحسب ما تشتهي أهوائهم وحسب ما تلتقي مصالحهم, متناسين لشيء مُهم يُسمى المصداقية العلمية والأمانة الأدبية فهذه هي أخلاق البحوث وأخلاق العلم, ولكن الإنتهازية والعصبية القومية هي سِمة هذا العصر وفوق كُل إعتبار.
لا يُخفى على أحد بأن بلاد الرافدين وامتداداتها الجغرافية هي مَهد الحضارات وفلسفة الأديان للعالم, وبرُغم أن القوميات لهذه الحضارات العظيمة قد صُهِرت في بودقة الدولة العربية الإسلامية مُنذ 1400 عام وأصبحت القومية العربية هي السائدة, ولكن تبقى الحضارات الرافدينية العريقة تَخُص أهلها وتبقى الأديان الرافدينية جُزء من آثار وتأريخ تلك المنطقة ولايُمكن لتُجّار البحوث أن يسرقوها وينسبوها لغير أهلها ولغير مكانها, وحتى وأن تمَّ دعمهُم من قبل بعض القنوات (القومية) بهالة إعلامية لاتأتي من رصانة بحوثهم وإنما تأتي ضمن مسلسل شراء تأريخ أرض الرافدين المنهوبة بعد الإحتلال الأميركي-الفارسي لها.
ضمن هذا الموضوع خرج لنا الباحث فاضل الربيعي بالعديد من اللقاءات التلفزيونية وهو يُنظّر لنظرية تقول بأن جميع حضارات بلاد الرافدين وأديانه قد خَرَجَت من اليمن العربي!
فأمّا الحضارات الرافدينية وأصلها فسوف أتركها للباحثين السومريين والبابليين والآشوريين من أحفاد طه باقر ودوني جورج شهيد الآرشيف اليهودي, ولكي يُبينوا تأريخها وأصلها وشواهدها لمن يُحاول نسبها لغير أرضها ولغير أهلها.
وأمّا الديانة الصابئية المندائية والتي يحاول هذا الباحث أيضاً أن ينسبها إلى اليمن, ورُغم أننا نتشرّف بأهل اليمن وبأصولهم العربية ولكنها ليست الحقيقة, بأن تُبنى هذه النظريات على معلومات واهية وتَدخُل في إطار تَسفيه البحوث عن الأصول المندائية وهذا شيء لانقبله.
لقد نَسَبَ هذا الباحث الذي لم يقرأ الأف باء عن الديانة المندائية أصلهم إلى اليمن, مُعتمداً على أن تسمية مندائي مُشابهة للأكلة اليمنية الشهيرة المندي! وأن كلمة صابئي تُشبه كلمة سبئي! والفول من الفلافل.
الآن لانعرف هل نضحك لهذا المستوى أم نبكي على من يُصدق حُجته؟ والتي هي أسخف من أن تمر على أي من الباحثين الحقيقيين ولكنها لغرض بث الإشاعات والإستهلاك المحلي لغير المُختصين.
لم يُكَلّف هذا الباحث نفسه بقراءة أي من كُتبنا الدينية وهي التي لم تَكُن متاحة منذُ آلاف السنين حتى أتى المُستشرقون لاحقاً ونشروها للإنكليزية في القرن العشرين, وفي بدايات القرن الواحد والعشرين تمت ترجمة كثير منها إلى العربية وهي مُتاحة لو كان هذا الباحث يرغب فعلاً بفهمها, لا بل وحتى أخَذَ يُلَفّق على كتابنا المُقدّس الكنزا ربا فيقول بأنه يتحدث عن مأرب!
ولكنه وضع المندائية في خانة واحدة مع اليهودية والخلاف بين فلسفتيهما واضح من السطور الأولى لمن يستطيع أن يقرأ ويرغب بأن يقرأ, وطبعاً هو فَعَلَ ذلك بعيداً عن أي أمانة علمية وإنما لكي تشمل نظريته الفذّة جميع الأديان الرافدينية بحكم علاقة التجاور بينها.
كما وأنَّ شواهد المعابد السومرية وعبادتها وطقوسها التي تتطابق مع طقوس المندائيين المائية, واللُّغة المندائية وهي الفرع الآرامي النقي والخالي من المُصطلحات الأجنبية والأقرب للُّغة الأكدية, وغيرها من الشواهد التي تُبيّن أصول المندائيين الرافدينية بأدلّة لاتقبل الشك, هي موجودة أيضاً لمن يُريد أن يتعمّق بهذه البحوث.
وأمّا تسمية المندائي فهي تعني العارف من الفعل الآرامي مندا والذي هو المعرفة وكذلك تسمية صابئي من الفعل صبا الآرامي وهو طقس الصباغة بالماء الجاري والذي يكون من أهم الطقوس لدينا.
نحنُ كمندائيين لسنا ضد أن يقوم الباحثون الحقيقيون بالكتابة عن أصولنا أو فلسفتنا الدينية, ولكن يجب عليهم أن يُظهروا الإحترام عبر قراءة هذه الفلسفة من داخل كُتبنا الدينية وعبر دارسة تأريخية حقيقية مُحايدة وذات مصداقية.
وكمثال على هؤلاء الباحثين الحقيقيين كانت الليدي دراور البريطانية في بدايات القرن العشرين فعاشت لخمسة وعشرون عاماً مع المندائيين في جنوب العراق في سبيل معرفة فلسفتهم ودراسة تأريخهم, وكذلك الباحث الدكتور خزعل الماجدي فقد درس الفلسفة المندائية لفترة طويلة قبل أن يُصدر كُتُبه عنها. وقد لانتفق مع جميع ماجاء في هذه البحوث ولأن أهلُ مكّة أدرى بشعابها. ولكنها تبقى بحوث رصينة وذات مصداقية في الكثير من جوانبها, ونشكُر لهم إحترامهم للأمانة العلمية وبحثهم عن الحقيقة بتجرّد من التعصّب الديني والقومي ومن المنفعة الماديّة المُباشرة.
ولو أنني المندائي أريد أن أكتب عن الإسلام فهل سوف أذهب وأكتب طبقاً لما يقوله اليهود وباقي الأديان عن الدين الإسلامي أم أدرس القرآن الكريم والمصادر الإسلامية نفسها؟
وفي الختام نود أن نُخبر جميع تُـجار الفول والفلافل وحتى أكَلَة المندي بأن هذا عصر تكنولوجيا المعلومات, ومن يرغب بالتلاعُب بتأريخنا فسوف لن ندخر وسعاً في كشفه للآخرين.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ