بلاد الرافدين -أصل المندائيين (الجزء الثاني)
لقد كانت هنالك العديد من النظريات التي يقول بها المستشرقون عن الأقوام والحضارات الأصيلة في العراق ومصر, فحيث وضعوا نظريات تقول بأن السومريين هُم مُهاجرون من أرمينيا والقوقاز, وأنّ المخلوقات الفضائيّة هي التي بنت الأهرامات في مصر, وكذلك وضعوا نظريّة الأصل الغربي للمندائيين (يهود منشقين من يهودا في فلسطين) وهذا برُغم جميع الشواهد على الأصول الرافدينيّة لهم (مصدر1)!
وطبعاً فأن هذه النظريات لاتأتي نتيجة لدلائل بحثيّة علميّة رصينة وإنما هي لغرض الإستيلاء على تاريخ مَهد الحضارة المُهم ونَسبه لأنفسهم.
أنّ نظريّة الأصل الغربي للمندائيين تقول ببساطة بأن المندائيين هُم أناس أنشقّوا عن اليهوديّة التي كانت في إمارة يهودا في فلسطين خلال الفترة في بدايات الميلاد, وبعد ذلك هاجروا مُضطرّين إلى بلاد الرافدين وتغيّرت مفاهيمهم الدينيّة هناك. وهذا الطرح سوف يحل لهم العديد من المشاكل وهي:
1. إزالة الشكوك الكبيرة لدى الباحثين العالميين بكون التوحيد الأول هو التوحيد المندائي في بلاد الرافدين, ولأن اليهود يدّعون بأنهم هُم أصحاب التوحيد الأوّل الذي خرجت منه الديانات الإبراهيميّة وفلسفاتها.
2. إزالة الشكوك الكبيرة بكون الفلسفة المسيحيّة قد خَرَجت من المندائيّة وليس من اليهوديّة (مصدر2), وأنّ قصّة المسيح نفسه قد جرت في بلاد الرافدين وليس في فلسطين (مصدر3), وحيث أنّ روايات اليهود كانت السبب الذي قامت عليه الحروب الصليبيّة بإدعائهم بأن مدينة القدس الحاليّة هي مَهد المسيحيّة وحرّضوا المسيحيين للقتال في سبيل استعادتها من المسلمين, وبالتالي كانت خسائر المسلمين والمسيحيين بالملايين وخلال قرنين تقريباً, ولاتزال منظماتهم الدينيّة تُثير الكراهيّة بين المسيحيين والمُسلمين عبر دعم الأحزاب السياسيّة والحركات الدينيّة المتطرّفة من الطرفين, وتأليب الدول المسيحيّة وقادتها لإحتلال دول الشرق, وآخرها إحتلال العراق, بعد أن أقنعوا ادارة بوش بأنّ آجوج وماجوج سوف يخرجون من العراق ويدمرون إسرائيل (مصدر4).
3. التغطية على الأصل الفلسفي والسردي لكتبهم الدينيّة, في حالة أفتضاح أنّ الروايات اليهوديّة وفلسفة الديانات قد تم سرقتها من تاريخ بلاد الرافدين الثقافي والديني والفلسفي والذي هو موجود بالكتب المندائيّة.
4. لغرض إعطاء الأهميّة التاريخيّة للمدينة الصغيرة في بدايات المسيحيّة والتي أصبح أسمها القُدس لاحقاً, وكانت تُحاكي حَجم قَرية في بلاد الرافدين في ذلك الزمان, وأمّا قبل الميلاد فلم تكن لها أهميّة تُذكر بالمقارنة ببلاد الرافدين ومدنها وحضارتها.
وحيث أنّ نظريّة الأصل الغربي, تَعتمد بنسبة كبيرة فيها على أكتشاف -مخطوطات البحر الميت- التي كانت إسرائيل قد أعلنت عن إكتشافها عام 1947 والمكتوبة بالعبريّة والآراميّة واليونانيّة. وذُكرت بها أقوام مسيحيّة يهوديّة مزعومة (تعترف بموسى والتوراة, تختتن, تقدّس السبت, وكانت تُمارس التعميد وعاشت في يهودا) وأعتبروهم بأنهم الأسينيين والحسح المذكورين في المصادر اليهوديّة.
وقد حاولوا بشتى الطرق القول بأن الأسينيين وربما قسم من تلك الأقوام المذكورة هُم نفسهم المندائيين, ولأنّهم كانوا يُمارسون طقس التعميد في الماء, ولكنهم بنفس الوقت يعترفون بالتوارة كمصدر للشريعة وبموسى نبياً ويُمارسون الختان ويُعظّمون يوم السبت وغيرها من ممارسات اليهود, وفوق هذا فهم كانوا من الذكور فقط الذين يعزفون عن الزواج! أي أنهم وضعوا فلسفة تلك الأقوام بمكان بين المسيحيّة الغنوصيّة المبكّرة واليهوديّة المتأخرة.
وطبعاً أستخدم المستشرقون الذين يعملون في نفس تلك المؤسسات المسيحيّة – الصهيونيّة, طقس التعميد الذي أشارت إليه المخطوطات التي وجدوها للقول بأن المندائيين هُم من ضمن تلك المجموعة التي تُمارس التعميد وأصولها كانت في يهودا وبسبب إضطهاد الرومان هاجروا إلى بلاد الرافدين!
وفي سبيل حَبك الموضوع أكثر فقد كانوا قد أكتشفوا تلك المخطوطات قُرب إحدى المغارات التي كانت قد وُجدت فيها آثار لحوالي مئتي شخص, وأشاروا إلى خزان للماء وقالوا بأنه كان يُستخدم للتعميد, وهذا هو الدليل الوحيد الذي قدموه على التشابه, ولكن حتى هذا الدليل فنده الآثاريون الذين أرسلتهم الكنائس لمتابعة الموضوع مثل الأب دي فو فقام بتأكيد أن هذا الخزان هو للشرب والأستحمام وليس للتعميد (مصدر5 ص97).
وأمّا الآن فقد أُثبت بأنّ جميع مخطوطات البحر الميت هي مُزوّرة (مصدر6&7), وحيث أستعملوا جلود قديمة لأحذية من العصر الروماني وكَتَبوا عليها تاريخاً مزوّرا لهم وجمعوا بها مُعظم الفلسفات للأديان القديمة ونسبوها لهم, بل وحتى وضعوا خيوطاً صغيرة تربط ملوك بابل العُظماء بفلسفاتهم (مثل وضعهم لقصاصة عن صلاة نابونيدس مصدر5 ص112) ولكي يقولوا لاحقاً بأنهم كانوا يهوداً أو أن اليهود من سلالاتهم! وكتبوا نصوصاً مُشابهة للديانات القديمة مثل نصوص الكنزا ربا اليسار, وحتى كلمة الناصورائيين الصقوها بأجدادهم المُزيفين الذين أخترعوهم! وربما هذا يُفسر سرقاتهم الحديثة المُتكررة لآثار بلاد الرافدين من بابل إلى آشور (مصدر8) ولكي يستخدموا المواد القديمة لتلك الآثار ويكتبوا عليها كما يريدون.
وقد كان صاحب نظريّة الأصول الغربيّة هو ليدزبارسكي الخبير باللُّغة المندائيّة! وهوالذي وضع أسس النظريّة وقال بها قبل أن يقوموا بتزوير تلك المخطوطات بعقدين من الزمان. وحيث أنّ ليدزبارسكي اليهودي كان قد تحوّل للمسيحيّة الإنجيليّة أو المسيحيّة الصهيونيّة والتي تكون أهم طرقها هو السيطرة على السياسة العالميّة لتحقيق نبوءات العهد القديم, وأسوء أكاذيبه هي أنه قال بأن اليردنا تعني نهر الأردن الصغير, في حين أنه يعلم يقيناً بأن لاعلاقة لنهر الأردن بتسمية الماء الحي باليردنا, وأنّ نَهر الفُرات فقط هو الأكثر قدسيّة ويُذكر في الكتب المندائيّة الدينيّة مُتفرّداً, وهذا لكي يتم ربط الموضوع بقصّة العهد القديم ونعمان السرياني الذي شفاه نهر الأردن من البَرص عندما أغتسل فيه, فيقولوا بأن المندائيين من تلك المجموعة اليهوديّة التي تتّبع التوراة!
وبعد ذلك تم أرسال المُستشرقين الذين يعملون في جامعات غربيّة مثل ماكوخ (مبعوث الكنيسة اللوثرية في سلوفاكيا), ولكي يصوغوا الروايات ويحرّفوا الدلائل الموجودة في الكتب المندائيّة ولكي تتطابق وتتشابه مع فلسفات تلك الأقوام الوهميّة, ومن ثمّ قام ماكوخ بإقناع دراور (أبنة القَس المسيحي) عبر مخطوطات البحر الميت, ولكي توافقه على هذه النظريّة ولو جزئيّا وفعلت ذلك في كتاب آدم الخفي بحذر شديد, وأنقلبت على قناعاتها وتأكيدها في كتابها السابق (الصابئة المندائيون) حول الأصول الرافدينيّة للمندائيّة, وطبعاً هي فَعلت ذلك بعد أن عادت لبلدها وأنتفت حاجتها للتواصل مع المندائيين بحصولها على مُعظم كتبهم الدينيّة وفهمها لفلسفاتهم, ولكن وعدى عن هذا الموضوع فقد ساهمت كتبها في أثارة الإهتمام العالمي بالمندائيين وكانت تتحلى بالمصداقيّة على مقدار فهمها للفلسفة والنصوص, وكذلك باقي المستشرقين فيوجد جانب جيد وسيّئ لكل منهم, فماكوخ عمل القاموس المندائي الأول مع دراور, وهؤلاء باحثون مُحترفون يعتاشون من هذا العمل.
وأمّا رودولف فهو أستند على مخطوطات البحر الميت لكي يدعم تلك النظريّة وكما فعلت دراور, وكذلك فهو كان ينفي أن يكون يوحنا المعمدان ينتمي للمندائيين (مصدر5 ص124) وإنما يقول بأنهم أنتحلوا هذا الموضوع لكي يتقرّبوا من المسلمين بعد فتح العراق! وطبعاً هذا الكلام تجنّي, ولأن النصوص في دراشا اد يهيا هي قديمة وقبل الإسلام وترتبط بكتاب الكنزا ربا وفيه يُذكر يهيا يهانا أيضاً وكذلك يُذكر في الصلاة, ولكن رودولف كان يُحاول أن يدافع عن اليهود تجاه كتاب دراشا اد يهيا فيطعن بصحّته وبالمعلومات الواردة فيه, والتي تُناقض روايات اليهود الدينيّة حول نشوء المسيحيّة وكذلك تُبين بأنهم أحتكوا مع المندائيين في العراق وليس في فلسطين.
أن الأخلاف الذين زيّفوا مخطوطات البحر الميت كانوا يَسيرون على خُطى أسلافهم الذين سرقوا أدب بلاد الرافدين ومصر والحقوه بكتبهم الدينيّة, وذمّوا فيها سُكان وحضارات هذه البلدان التي تعلّموا منها كل شيء (مصدر 11,10,9).
لقد قام المستشرقون الذين كانت مؤسساتهم الدينيّة قد أرسلتهم لغرض تحريف الفلسفات والآثار العظيمة في بلاد الرافدين والأقوام الأصيلة هناك, ولكي تتطابق مع الروايات التوراتيّة التي يحكمون العالم بأسمها. فحرّفوا وغيروا كيفما جرت أهوائهم ونشروا تلك المصادر, وأوهموا بها الباحثين الشرقيين الذين لم يكونوا يمتلكون مصادر غيرها, والذين كانوا أصلاً يُعانون من الإحتلال العُثماني الذي كان سلاحه نشر الجهل لغرض إبقاء تلك البُلدان المُحتلّة ضمن التوابع منذ أربعمائة عام, ولكن وبرغم هذا فأن الباحثين المندائيين ذوي المصداقيّة مثل عزيز سباهي وناجيّة المُراني كانوا يشككون كثيراً بتلك الروايات ورُغم عدم توفر مصادر كثيرة لهم في وقتهم.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
المصادر
1. مقالة: بلاد الرافدين -أصل المندائيين (الجزء الأول), سنان سامي الجادر
2. مقالة: المَسيح الترميدا الناصورائي, سنان سامي الجادر
3. مقالة: قُرب بابل …كانت أورشلام, سنان سامي الجادر
4. مقالة جريدة الرياض : لن أصدقه حتى لو سمعته مجدداً, فهد عامر الأحمدي
5. كتاب: أصول الصابئة المندائيين, عزيز سباهي
6. مقالة: جميع مخطوطات البحر الميت في متحف الكتاب المقدس مزيفة، By Brigit Katz
7. مقالة: اكتشاف زيف 16 جزءا من مخطوطات البحر الميت, RT
8. مقالة: دَمروا بابل وآشور.. ورقصوا, سنان سامي الجادر
9. مقالة: جنة عدن بين الطوفان والخلود, د.بهنام أبو الصوف
10. مقالة: ليلة تسليم جلجامش لليهود, حسين سرمك حسن
11. مقالة: الوصايا العشر في ديانة مصر القديمة, فراس السواح