لمّا كانت الناصورائية (وهي التسمية الأقدم للمندائية) هي إمتداد لديانة السومريين القديمة وتطورها في ظل الحروب والإحتلالات ونشوء ديانات أحدث وهي الزردشتية واليهودية (مصدر1&2), وقد كان الناصورائيون هُم من أسسوا أول مدينة في التاريخ وهي أريدو على نهر الفرات جنوب العراق, وأستمروا بعد ذلك ضمن الحضارة البابلية.
بعد سقوط بابل تركّز المندائيون في مناطقهم الخاصة والتي كانت في مملكة ميسان جنوب العراق, وبعد إحتلالها وتدميرها من قبل الساسانيين عام 222 ميلادية هربوا إلى الأهوار والأهواز والمدن الصغيرة المحاذية (مصدر3).
وعند ظهور المسيحية والإسلام بعدها, إزداد إنعزال المندائيين ولأن تعاليم دينهم هي مُسالمة وتُحرّم القتال تحت أي ظرف, ولكون التعاليم المندائية هي سريّة ولاتُفشى أسرارها حتى لعامة المندائيين وإنما فقط تُلقّن لرجال الدين وسُلالاتهم الوراثية (مصدر4) ويتم ترميزها وتشفيرها داخل النصوص وقد كانت تُسمى بالديانة الباطنية, وأيضاً لأن المندائية هي دين غير تبشيري ولاتُحاول كسب أناس جُدد ولهذا فلم يكن بالإمكان التسلل ومعرفة أسرارهم المُتوارثة, وكان رجال الدين المندائيين يعمدون إلى طمر الكتب الدينية تحت الأرض أو رميها في النهر عند محاولة الأستيلاء عليها من قبل الغُرباء, ولهذا فقد بقيت تعاليم المندائية سرّية وعصيّة على الأقوام الأخرى المجاورة, حتى يُروى أن كثير من المجازر حصلت للمندائيين في سبيل الحصول على أسرارهم, ومن تلك المجازر الحديثة العهد كانت تلك التي حصلت عام 1782 من قبل الفرس في الأهواز (مصدر5*) والتي كان ينتشر بها المندائيون, حيث تَمّت إبادة المندائيين هناك وتم قتل مُعظم رجال دينهم بحثاً عن هذه الكتب والأسرار الناصورائية.
أنَّ غموض التعاليم المندائية وطقوسها الفلسفية قد دفعت بالباحثين القدماء إلى محاولة فهمها, عبر الإشاعات والتأويلات والتفسيرات التي كانت تطلقها تلك الأقوام نفسها على المندائيين, بسبب عدم توفر الكتب والمصادر المندائية لهم, ولهذا فعند الرجوع إلى المؤرخين القدامى ومقارنة كتاباتهم عن المندائيين مع الكتب المندائية والتي تمَّت ترجمتها ونشرها حديثاً نجد بأنها لا تنطبق, وأن محاولاتهم لفهم الفلسفة المندائية لم تكن موفقة ولم تتعدى القول بأنهم يعبدون الكواكب والنجوم. ولكن تبقى تلك المؤلفات ذات قيمة تأريخية ولأنها تشرح لنا الظروف العامة التي كانت سائدة وأخبار ذلك العصر الذي كُتبت به, ولهذا فسوف نستشهد ببعض تلك الكتب ليس لشرح الفلسفة المندائية وإنما لمعرفة أخبار ذلك العصر الذي كُتبت به وما يرويه عن الماضي الذي سبقه.
لقد كان الناصورائيون بشعورهم الطويلة وملابسهم البيضاء وطريقة حياتهم التي تتركز على الزُهد في الدُنيا وتَعظيم الآخرة, وانعزالهم عن التجمعات السُكانية لغرض أداء الطقوس التي تَستحوذ على نهارهم ولَيلهم, وهذه الطقوس كانت ولا تزال تخضع لقِبلة الشمال ولتوقيتات تعتمد على حركة الشمس والقمر والنجوم والكواكب, وحتى على مستوى متطلبات الحياة اليومية من مجلس ومأكل ومشرب وجنس, وللمندائيين تقويمهم الخاص. وكذلك فأن المندائيين يعتقدون بوجود قوى للشرّ في الشمس والقمر والكواكب الخمسة (عطارد, الزهرة, المريخ, المشتري وزحل) ويعتقدون بأنها تتسلط وتؤثر على البشر, ولهذا فكانت لهم مراصد خاصة لكل واحد من هذه الأجرام السماوية ولكي يحاولون فهم رسائلها وتأثيراتها عليهم وعلى الناس (وليس لأنهم يُعظّمونها), ويقول الدكتور خزعل الماجدي في كتاب المثولوجيا المندائية (ص230) وهو الذي دَرَسَ الفلسفة المندائية جيداً (إن التهمة الجاهزة التي إتُّهِمَ بها المندائيون على أنهم عبدة كواكب هي تهمة باطلة ورخيصة ولا علاقة لها بأي معرفة, ولو بسيطة, بالمندائيين وبدينهم).
ومن الأسباب السابقة فقد كان المندائيون دائمي التطلّع إلى السماء ويرقبون النجوم والأجرام, فَهُم من البابليين القدماء وكانوا يُقيمون المراصد الفلكية لهذا الغرض (مصدر6). ولهذا فقد أطلقت الأقوام الأخرى عليهم العديد من الأسماء ومنها تسمية الكِلدان والتي تعني السَّحَرَة, وهذه التسمية كانت تسمية تُطلق على الكهانة في عهد نبوخذنصر (مصدر7) وكُل من أمتهن بها أو من كانوا يعتقدون بأنه يدخل ضمن هذه الفئة التي يفسرون طقوسها على أنها سحر أو تنجيم.
ويقول الشهرستاني (1076 – 1153م) في كتابه الملل والنحل بأن النبط كان منهم الصابئة وكذلك بأنهم كانوا يُسمَونَ بالكلدان (مصدر8), ويُسمون بالأحناف (8X2) لقسم منهم وهُم الذين يعترفون بنزول الفيض الإلهي على البشر الطاهرين أي أنهم يعترفون بالأنبياء, وبينما المجموعة الأخرى كانت تقول بأن الفيض الإلهي ينزل على الملائكة فقط وليس على البشر وهذه هي الإختلافات الفلسفية الطفيفة بين فرق الصابئة التي وجدها وعلى أساسها سمى الفرقة الأولى الأحناف والثانية أبقاها الصابئة.
ويقول الشهرستاني أيضاً بأن ملوك بابل كانوا من الصابئة, وبأن المصريين كانوا على دين الصابئة حتى غزاهم الرومان ونصّروهم.
وكذلك قال أبن خلدون (1332 – 1406م) في مقدمته (مصدر9) بأن الكلدانيين هُم الموحدين ويقول أيضاً بأن ملوك الأرض بعد الطوفان كانوا من الصابئة وكذلك ملوك بابل كانوا من الصابئة ومنهم النمرود, وهو ربما يقصد نبوخذنصر ولأنه كان قد عظّم من سُلطان بابل كما يقول.
وأيضاً خصص أبن النديم (932 – 1022م) في كتابه الفهرست فصلاً للصابئة الذين سماهم بالكلدانيين, وقال بأنَّ الأنباط هُم الصابئة (مصدر10), وقام أيضاً بتقسيمهم إلى مجموعات حسب ما تصوّر من إختلافات بينهم (10X2), ولكنه يقول بأن دعوتهم وشرائعهم وسُنّتهم جميعاً واحدة, أي أنّ صابئة حران لا يختلفون عن صابئة البطائح, ويَذكُر من عُلمائهم هرمس (الحكيم) والذي هو النبي إدريس وكذلك سولون جد إفلاطون, وربما يقصد فيثاغورس؟ ولأنه كان قد تَعَلّمَ من الناصورائيين (مصدر11).
وقال أبن العبري (1226 – 1286م), بأن الصابئة دعوتهم هي دعوة الكلدان القُدماء (مصدر12), وبأن اليونانيين كانوا على مذهب الصابئة أيضاً (وكما بينّا في مصدر11), حتى جاء قسطنطين وقام بتنصيرهم.
وطبعاً لا تقترب بحوث المؤرخين الذين ذكرناهم حول (فلسفة) الدين المندائي من الحقيقة الكاملة لعدم توفر المصادر المندائية لهم في وقتهم, وفي حين أنَّ رجال الدين المندائيين كانوا ولا يزالون يُنظّمون أنفُسهم على شكل حلقات تتكون كُل حلقة من أمين الكنز وهو الكنزبرا مع مجموعة من الترميدي والدرجات الدينية الأقل, ولكُل هذه الحلقات المُختلفة تكون لديهم ثوابت دينية أساسية يلتزمون بها جميعاً مثل عدم إفشاء الأسرار والحفاظ على المندائية والمندائيين وبمرجعية الكُتب الدينية المُقدّسة وأهما الكنزا ربا والرجوع إليها في أحكامهم, وأمّا البحث العلمي والفلسفي فتوجد بين الحلقات وطُلابها إجتهادات وتفسيرات مُختلفة وهذا هو منهج البحوث, ولهذا فقد كان المؤرخون يعتقدون بأن الصابئة كانوا على طوائف مُختلفة, وإن كان أبن النديم قد شهد بأن دعوتهم وشرائعهم واحدة.
وأمّا المندائيين أنفسهم فهم كانوا يمقتون أن يُسَمونَ بالكلدان والتي تعني السَّحرة كما أسلفنا, ونجد في كتاب الكنزا ربا هذه البوثة (مصدر13) التي يُخاطب بها الناصورائي الأشرار في هذا العالم, أثناء مُغادرته إلى عالم النور بعد أن فارق جسده الحياة, فيقول لهم
* “لم أتسمى بأسمائكم ولم أتحدث بحديثكم,
ولم أكن كلدانياً (ساحراً)
ولم أكن عرّافا (يقرأ الكف أو غيره)
ولم أكن نبياً (مدعياً النبوّة لمصلحة دنيوية” الكنزا ربا المندائية اليسار ص120
ومن هذه البوثة نعرف بأنه تسمية الكلدان كانت تؤخذ بمعنى الساحر, وليس لمجموعة أو قومية من الناس, فلم تكُن هنالك قومية تُسمى بهذا الأسم, وإنما هو أسم للذين يزاولون مهنة السحر!!! (مصدر14)
ونجد العديد من البوث في كتاب الكنزا ربا التي تُشدد على منع السحر والتنجيم ومنها
* “لَا تَتَعَلَّمُوا رُقىٰ الشَّيْطَان” الكنزا ربا اليمين ص11
* “واعلَموا أنَّ السَّحَرةَ والمنجّمين في الظلامِ قابعونَ, فلا تَقصُدوهم” الكنزا ربا اليمين ص19
* “أيُّتُها النِّسَاءُ اللَّوَاتِي تَكُنَّ لِلرِّجَالِ حَذَارِ مِمَّا لَا يُرْضَي الله ، وَلَا يَحسُنُ لَدَىٰ النَّاس: الزِّنَىٰ ، وَالسَّرِقَةِ ؛ وَإيَّاكُنَّ وَعَملَ السِّحْر إنَّهُ مِنْ رِجْسِ الشَّيْطَان” الكنزا ربا اليمين ص21
* ”وشَمَّ عِطري السَّحَرةْ (66) فارتجفَتْ قلوبُهُم مُعتَذِرةْ:
(67) سيِّدَنا .. لم نَكُ عالمين (68) وقد علِمنا الآنْ (69) ولن نَمسَّ السِّحرَ بعدَ الآنْ” الكنزا ربا اليمين ص36
* “إِنَّمَا الشَّرّ وَالْعِصْيَانِ وَالْحُمَّىٰ الْآكِلَة وَالسَّحَرُ وَالشَّعوَذةُ رِجْسٌ مِنْ بَلَدِ الظَّلاَم” الكنزا ربا اليمين ص56
* “الدُّهُور كُلُّها سَتَدُول ، وَالْمَخْلُوقَات سَتَزُول ، تَنْضُبُ الْآبَار ، وَتَجِفُّ الْأَنْهَار ، وَتتَيبَّسُ الْبِحَار ، تَتَفتَّتُ الرِّجَام ، وَتَتَهدَّمُ الْجِبَالُ وَالْآكَام ،..، وَسَيُحكَمُ عَلَى مَنْ سَفَكَ دَمَ ابْنِ آدَم ، وَشَوَّهَ الْوُجُوهَ الَّتِي هِيَ كَوَجْهِهِ ، سَيُنادىٰ عَلَىٰ الْمُجْرِمِينَ .. الزُّنَاةِ وَاللُّصُوصِ وَالْمُنَافِقِينَ ، وَعَلَىٰ السَّحَرَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ ، وَيُدْفَعُونَ إِلَىٰ حَرَائقِ النَّارِ أَجْمَعِينَ” الكنزا ربا اليسار ص16-17
وتوجد بوث أخرى كثيرة لتحريم السحر في كتاب تعاليم يحيى بن زكريا, ولا داعي لذكرها هنا.
ورُغم هذا التحريم الكبير للسحر لدى المندائيين, ولكن لايزال يوجد العديد من الدجالين الذين يدّعون بأنهم صابئة ولكي يُمارسوا مهنة السحر ويتلاعبون بعقول البسطاء والسُذّج, ولكون السحر مُحرّم في جميع الديانات, وكما بينّا ذلك بالنسبة للصابئة, فهو مُحرّم على المُسلمين والمسيحيين أيضاً
“وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ” [البقرة:102]
“لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع (أي السحرة)، فتتنجّسوا بهم، أنا الرب إلهكم” [لاويين 31:19].
ولهذا فنحن ندعو الجميع بأن يقوموا بالتبليغ عن هؤلاء الدجالين, والذين يتعمدون تشويه سُمعة الصابئة وبنفس الوقت يظلمون الناس ويأخذونهم للكُفر وللباطل, ففي هذا العهد قد قلَّ عددنا وتهجّرنا في جميع دول العالم, وبالتالي لم تتبقى لنا مؤسسات قادرة على كشف هؤلاء وتخليص الناس منهم!
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
المصادر
1 مقالة : أصول الناصورائية المندائية”: العرفانية في وادي الرافدين
2 مقالة: السومريون-البابليون-المندائيون
3 مقالة: مملكة ميسان وآثار الحضارة المندائية
4 مقالة: السلالات الوراثية الناصورائية
5 Jean de Morgan (mission scientifique en Perse ) volume5
*”الترجمه الحرفيه كما يلي :
((الفرس ارادوا الحصول على الكتب الدينيه للمندائيين ولكنهم لم ينجحوا بالحصول عليها لا عن طريق الشراء ولا عن طريق السرقه.لذلك قاموا بأعتقال قادتهم ولكن المندائيين قالوا لهم انهم يتبعون الديانه المندائيه عن طريق التقليد عند القيام بالطقوس المندائيه الدينيه خوفا على كتبهم ,عند ذاك تم رمي قادتهم الدينين في السجن وتحت التعذيب, ولكنهم استمروا في انكار وجود اي كتاب مندائي لديهم ولكن الفرس هددوا الكثير من قادة المندائيين بالقتل , البعض خوزقوا واخرون مزقوا ,احد المعذبين المندائيين تم قطع اطرافه الواحد بعد الاخر بدأ من اصابع الارجل ثم الايدي, بعض قادتهم تم جلدهم احياء والاخرين تم احراق اعينهم بوضع حديده حاميه جدا في اعينهم, ثم بعد ذلك تم ذبحهم ,والبعض الاخر تم احراقهم احياء .
الكنزبرا (ادم) الذي تم قطع يده اليمنى من قبل المسلمين الفرس كان واحد من هؤلاء المساجين وهرب الى تركيا (من المحتمل المقصود شمال العراق في العصر العثماني) ولكن قبل هروبه اخذ معه نسخه من كتاب الانياني (الكتاب الرئيسي للمراسيم الدينيه المندائيه) تم استنساخه من قبله رغم ان يده اليمنى كانت مقطوعه وهذا (الكتاب الانياني هو المصدر الوحيد الذي اعتمد عليه في منطقة العماره) وفي نفس الوقت فأن آدم هذا هو نفسه قد علم عن المندائيه الى شخص انكليزي اسمه (j.e.taylor) والذي كان نائب القنصل في البصره واستمر تعليمه لمدة 12 سنة”
6 من كتاب الكنزا ربا اليمين حول الصلاة الليلية (مع الصور المرفقة)
7 مقالة: كلمة كلداني تعني: مُنجِّم، مجوسي، ساحر
8 كتاب الملل والنحل للشهرستاني, الجزء الأول, ص257-259 (مع الصور المرفقة)
9 كتاب تاريخ ابن خلدون1-7 المسمى كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 , ص74 (مع الصور المرفقة)
10 كتاب الفهرست لأبن النديم, ص339, ص314 (مع الصور المرفقة)
11 مقالة: فيثاغورس ومُعلمه الناصورائي الساحر
12 كتاب هلال الصابي-مؤلفاته وحياته, ص163-164 (مع الصور المرفقة)
13 من كتاب الكنزا ربا اليسار حول تسمية الكلدان أي السحرة (مع الصور المرفقة)
14 مقالة: تسمية الكلدان تزوير مُتعمد