خلال العُصور التي كُتبت بها الكنزا ربا للناصورائيين والذين كان يوجههم الإلهام الإلهي (أيمرا وشيما). لقد كانوا حريصين على عدم إفشاء الأسرار الخاصة بهم ولم يكونوا يُطلِعونَ عليها إلا الطبقة المعنية وهي طبقة رجال الدين (مصدر1), وحتى أن تدوين التعاليم بدأ بعد إنتشار التبشير المسيحي المفروض عسكرياً من قبل الإمبراطورية الرومانية, والذي بدأ يُهدد مَهد المندائية في جنوب بلاد وادي الرافدين, ولهذا فقد كانت التعاليم والأسرار الناصورائية تُرَمِّز المعلومات والتعاليم عبر إدخالها بروايات وحِكم يُمكن فهمها بصِوَر مُتعددة وتبعاًَ لتفكير القارئ وتعليمه وقوّة إيمانه, ولهذا فنجد بعض النصوص والتي رُبما تبدو خيالية أو سطحية أو أنها تتحدث عن أحداث لا تمت للواقع بصلة, وهذا هو الجانب الذي كان يستهين به بعض الذين لا تستهويهم فكرة وجود الخالق ولا يعترفون بالإيمان به, ولكن هذا غير صحيح كُلياً.
فقد تَرَكَ لنا هؤلاء الناصورائيون كنوز من المعرفة ولكنها مُرمّزة وباطنية وبالتالي فعند محاولة فهم هذه التعاليم يجب أن تتوفر عوامل عديدة, ومنها المعرفة التأريخية بما كان يجري بالعصور القديمة التي كُتبت بها, وكذلك بالتعابير المجازية والفلسفية التي كانت شائعة لديهم, وحيثُ أنَّ مُخيلة الفكر والفلسفة لديهم كانت أعلى بكثير عن مستوى فهمنا الحالي, ولأن المُخيّلة الفكرية وحُريّة الفكر قد أنسحبت تحت ضغوط عصرنا المتقدم تكنولوجياً والمتأخر فلسفياً وفكرياً, ومن سِماته هي رَفضه لكل ما يُخالف المنطق والأدلّة البَديهيّة المُباشرة, وهي التي أصبَحت كمُحددات يتعلمها الأطفال بالتلقين المدرسي والبيتي والمعلوماتي مُنذ صغرهم ويَكبُرُون معها ويُفكرون ضمن حدودها المنطقية الضيقة, وحتى الطبقة الأعلى تعليماً فتجد لديهم المعرفة ذات قُطبية كبيرة في إختصاصاتَهُم الدقيقة, ولكن لديهم قصور كبيرة في ماعداها من العلوم الأخرى والأدب, فتجد طبيباً لامعاً ولكنه لايفقه شيئاً بالأدب أو حتى بباقي العلوم, وتجد مُهندساً بارعاً ولكنه لايعرف شيئاً بالفلسفة أو الطب, وهذه هي ميزة عصر الآلات الذي نعيشه! وهي أنَّ كُل آلة تُنفّذ مُهمتها فقط.
أنّ الذين يقرأون الفلسفة والشِعر والنَثر من الزمن القديم ويفتتنون بها وبمستوى حكمتها وبلاغتها وتعبيرها, هُم يعرفون هذه الحقيقة, ولو تخيلنا بأن يأتي لعصرنا الحالي أحد الشُعراء أو الفلاسفة القُدماء لأتتهُ الصدمة ليس إنبهاراً بالتكنولوجيا الحالية وهي التي تخدُم تطوّر ورفاهية الإنسان الماديّة في هذه الحياة, ولكنها تُحدد تفكيره وتحصره بالإنتاجية والماديّة, ولاشك بأن هذا الفيلسوف القادم من الزمن الماضي سوف ينصدم لسطحية مفاهيم هذا العصر وطريقة تفكيره الساذجة والتي تُشبه طريقة عمل الآلات وتَحَوُّل الإهتمامات من الفِكر والفلسفة إلى الماديّات وحاجات الجسد ومُتعه.
وبينما كان الناس قديماً ينظرون إلى الطبيعة ومخلوقاتها ويتأملون بها ويُفكرون ويتحدثون بفلسفة تنبُع منها وتُخاطبها, وكان هاجسهم هو العلم والفلسفة بكافة المجالات وهو المُتعة الكُبرى لهُم, ولأن مُتطلبات الحياة كانت أبسط, ومن هذا المنطق قال سُقراط لأحد المُتبخترين بملابسه وأناقته “تَكَلم لكي أراك”, فقد كانت نُخبة الناس تتحدث بالحِكمة والفلسفة وتَصوغ أفكارها أرتجالاً شعراً ونثراً, والجميعُ يقول والجميعُ يَسمَع ويَحكُم.
أنَّ حافز التَعَلُم في عصرنا هو المردود المادي المُقابل, فلا تجد أحداً مُهتماً بالتَعلّم بسبب حُبه للعِلم نفسه وإنما لغرض العَمل بما تَعلمه وجني الأموال منه, وحتى أغنى الأغنياء فتجد بأنه لا يكُف عن العَمَل والتَعلّم بأختصاصه فقط وهو يستثمر وقت فراغه في اللهو, ولاتجد له رغبة بالمعرفة في أشياء أخرى خارج أهتماماته المُحدَدة.
تُعنى الفلسفة المندائية بالنشمثا وكيفية تهذيبها في هذا العالم الأرضي الذي نعيش فيه, وحيثُ انها زُرِعَت في الجَسَد المادي لغرض تدريبها وأختبارها ولحين عودتها إلى بلد النور, إن كانت ترقى له!
وبالتالي فأن جميع الوصايا والتعاليم في الكُتب المندائية هي لهذا الغرض (تهذيب وتدريب النشمثا) وليس لشيء آخر, فمثلاً هنالك من يُحاول أن يُفسر التعاليم المندائية وكأنها تُعنى بجسد الإنسان فَتَحميه من طعام قد يكون فيه ضرر أو أنها تُعطيه تعاليم ليُشفى من الأمراض! وطبعاً هذا الكلام غير صحيح ولأنها كُتب غير دنيوية, ولأن الجسد لايأخذ أي قيمة في التعاليم سوى للمُحافظة على نقائه وطهارته, ولأن الوصول لهذه الطهارة هو أحد شروط حلول الفيض الإلهي (أيمرا وشيما) في الإنسان المؤمن. وحتى أنَّ الجَسَد يُسمى بالنفاية البذيئة!
”لا يا إخوَتي .. لا. كيفَ تعودُ نفسٌ من النّفوس, إلى تِنيِّنٍ بسَبعةِ رؤوس؟ كيفَ تُرجِعونَ نشمثا البَريئة, إلى هذه النِّفايةِ البذيئة؟” الكنزا ربا اليسار ص56
”طوباكِ أيَّتُها النَّفسُ طوباكِ .. مَنازلُ إخوَتِكِ الأُثريّين مَقامُكِ ومَثواكِ (8) فَبارِكي أهلَكِ الأوَّلين, والعَني هذا البلَدَ, وهذا الجَسَدَ الطّين, فقد كانَ مُمتلِئاً بالمَرَدةِ والشَّياطين .. وكانوا جميعاً لاضطهادِكِ ناشطين” الكنزا ربا اليسار ص48
وكذلك فمن مُطالعة الكُتب الدينية المندائية وخاصة كتاب الكنزا ربا, يجد القارئ الكثير من التعابير الضمنية والمجازية, والتي يجب أن لا تُفسّر حرفياً وإنما تؤخذ بالقصد منها, وفيما يلي بعض منها
*الضوء والنور
يَكثُر الحديث عن الضوء والنور وبأنهُما صِفَة للمُختارين الصالحين وهي هبة تُعطى لأبناء النور وللأثريين, ولكن ماذا يقصدون بالضَوء والنور في عالمنا المادي هذا, وماهي صِفاتَهُما؟
أنَّ الضوء هو الذي ينبعث من مصدره الذاتي, وبينما يكون النور هو نتيجة لإنعكاس الضوء وبالتالي فهو المصدر الغير مُباشر وهكذا نقول ضوء الشمس ولأنها مُنيرة بذاتها ونقول نور القمر ولأنه نتيجة لإنعكاس ضوء الشمس عليه.
وهكذا فالمقصود بالضوء هو الحكمة والذكاء والفطنة التي تنبُع من صاحبها, بينما يكون النور هو قابلية ورغبة وفُرصة التعلُُم.
”أغطيك بضوءٍ فوق ضوئك ونوراً فوق نورك” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص251 (الأصلية مع الصور المُرفقة 1)
*الترميز بالأعداد والأرقام
تعتمد الفلسفة المندائية على الترميز بالأعداد والأرقام كثيراً, ولأن الرياضيات هي إحدى وسائل الفلسفة المُحببة ولكون الخالق هو الرياضي الأعظم, ولقد تناولنا سابقاً شرح هذا الموضوع وكيف أنَّ فيثاغورس (مصدر2) الذي كان قد تعلم الفلسفة الناصورائية في بابل ونقلها لاحقاً إلى أوروبا, وكانت ترتكز على فكرة أن الإشتغال بالفِكر والفَلسفة والرياضيات هو أسمى منزلة الأعمال ولأنها تُحاكي أعمال الخالق, بينما يكون الإشتغال بالربا وتحصيل الربح من النقود نفسها هي أرذل منازلها ولأنها أعمال لا تُنتج شيئاً, وصاحبها يتنفّع من المُضاربة بالنقود نفسها والتي هي وسيلة للتبادل التجاري وليس للربح
لقد قُمنا بتأكيد الأصول الرافدينية العَريقة للمندائيين, وكما بينا ذلك في العديد من المقالات السابقة (مصدر8,7,6,2), وبالتالي فأنّ أي بحث حول الكُتب والفلسفة الدينية المندائية, سوف تجد لهُ جذوراً واضحة لدى أسلافهم البابليين والسومريين من قبلهم. وحيثُ أنَّ البابليين كانوا أول من قسم السنة إلى 365 يوم (مصدر3) ومن هُنا يتكرر العدد 365 في الكنزا ربا وهذا العدد هو نفسه عدد أيام السنة, وبالتالي فيكون هذا العدد هو للتعبير على أن الموضوع الذي أقترن بهذا العدد سوف يتكرر خلال الزمن كثيراً.
”فجاء صياح من سحابة الملاك أنُش أثرا وخاطب الروهة قائلاً : من موطن هذا المكان سوف يأتي ٣٦٥ تلميذا لي
…
ومن ميرياي الكاملة خَرَجَ ياقف وبني أمين، ومن ياقف وبني أمين خَرَجَ ٣٦٥ تلميذاً (للحَيّ) في قرية أورشلام. اليهود غضبوا وقتلوا تلاميذي الذين يذكرون اسم الحَيّ.” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص312-314 (الأصلية مع الصور المُرفقة 2)
وتتحدث هذه البوثة عن خروج 365 تلميذ للملاك أنش أُثرا في أورشلام, ويعني بها بأنهم التلاميذ الذين خرجوا خلال جميع تلك الفترة الزمنية أي طوال الزمن, وبأن اليهود كانوا يقتُلُونَهُم جَميعاً.
وكذلك العدد 360 فهذا العدد هو نفسه عدد الدرجات التي تُقسّم لها الدائرة, ولأن البابليين أيضاً هُم الذين قسموا الدائرة وأستعملوا النظام الستيني الأكثر دقّة من نظامنا العُشري الحالي, وبالتالي فعندما يُذكر هذا العدد مُقترنا ً بشيء مُعين فيعني به بأنه ضمن جميع الأماكن المُحيطة بالمكان.
“قُم لكي نَصبُغَكَ بثلاثمائة وستون الف يردنا، ونُلبسُكَ ثلاثمائة وستون رداءاً وكساءاً” الكنزا ربا اليمين خفاجي ودُرّاجي ص119 (الأصلية مع الصور المُرفقة 3)
وهذه البوثة من قصة إستدعاء الملاك هيبل زيوا وصباغته قبل إرساله إلى عالم الظلام, وفي هذا النَص يصبغونه في 360 الف يردنا أي أنهم يصبغونه في جميع اليرادن, والآلاف هُنا للتعظيم ولأن الصباغة هُنا في عالم النور وليست في العالم الأرضي. ومن ثُم يُلبسونه ويكسونه 360 مرة أي بكافة الأكسية والملابس المُتقنة (التعاليم والتوضيحات).
وتوجد أرقام وأعداد أخرى لها معاني مجازية وفلسفية أخرى
*الضفائر في الرأس
”أنتم أذهبوا وليكُن لِباسكُم الضوء وكسائكُم النور، ولتَكُن ضفائركُم مجدولة في رؤوسكم، وتُسَمَوّنَ برئيس سُلالة الحَيّ.” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص238 (الأصلية مع الصور المُرفقة 4)
وهذه البوثة تتحدث حول هيبل وشيتل وأنُش وبأنهم يلبسون الضوء أي لديهم الحكمة والذكاء والفطنة ويكتسون بالنور أي أنهم يرغبون بالتعلّم ولديهم قابلية التعلّم وسوف يتم تعليمهم, وبعد ذلك يوصيهم بأن تكون ضفائرهم مجدولة في رؤوسهم؟
ولكن ماذا يقصد بالضفائر المجدولة في الرأس, ولماذا هي مُهمة ليذكرها ببوثة خاصة, وطبعاً ليس لكون الضفائر ذات ميزة سحرية هُنا, وإنما هي دعوة للنصر وعدم الهزيمة أو الوقوع في الأسر ولأن الأسرى كانت تُحلق شعور رؤوسهم ولحاهم, تعبيراً عن إهانتهم وبأنهم لم يعودوا أحراراً (مصدر4) وبالتالي فهي دعوة للإنتصار وعدم الهزيمة والوقوع في الأسر.
”ماذا فعلت يا ياور كبار أبن مندا اد هيي، أنت الذي تَضفُر لنا الجدائل في رؤوسنا” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص119 (الأصلية مع الصور المُرفقة 5)
أي تقول هذه البوثة بأن هيبل زيوا هوَ الذي يجلُب لهُم الإنتصارات, ولهذا فعلى من يقرأ الكُتب الدينية المندائية, أن يكون مُلمّاً بالتأريخ الذي تُحاكيه النصوص وهو تأريخ الحضارة السومرية والبابلية من بعدها, وأن يكون ذا مُخيّلة واسعة ويعرف المَغزى والحِكمة من النصوص والحكايات, وهذا على إفتراض بأنه يقرأ ويُطابق مع النصوص المندائية الأصلية ولأن التَرجمات جَميعها تَختزل كثيراً من المعنى الفلسفي للنصوص, ومع ذلك فهي مُهمّة أيضاً.
ومن كانت لديه ناصروثة فسوف يفهم أكثر من غيره ..
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
المصادر
1. مقالة: السُلالات الوراثية الناصورائية, سنان سامي الجادر
https://mandaean.home.blog/2019/05/14/السلالات-الوراثية-الناصورائية/
2. مقالة: فيثاغورس ومُعلمه الناصورائي الساحر, سنان سامي الجادر
https://mandaean.home.blog/2019/11/03/فيثاغورس-ومُعلمه-الناصورائي-الساحر-2/
3. بحث علمي: علم الفلك في وادي الرافدين ووادي النيل والحضارة العربية, جامعة بابل, كُلية التربية
4. مقالة: الموروث الديني المندائي, سنان سامي الجادر
https://mandaean.home.blog/2019/06/19/المَوروث-الديني-المَندائي/
5. مقالة: مملكة ميسان وآثار الحضارة المندائية, الجزء الثالث, سنان سامي الجادر
https://www.mandaeanunion.org/ar/history/item/2259-مملكة-ميسان
6. مقالة: الناصورائيون الكلدان النبط الأحناف, سنان سامي الجادر
https://mandaean.home.blog/2020/01/05/الناصورائيون-الكلدان-النبط-الأحنا/
7 مقالة: قُرب بابل كانت أورشلام, سنان سامي الجادر
https://mandaean.home.blog/2020/02/06/قُرب-بابل-كانت-أورشلام/
8. مقالة: حوار دنانوخت وعشتار الروهة, سنان سامي الجادر
https://mandaean.home.blog/2020/02/29/حوار-دنانوخت-وعشتار-الروهة/