آدم الرجُل الأوّل.. الناصورائي
لقد كُنا قد ذكرنا في مقالة سابقة بأن الكُتب الدينية المندائية مليئة بالتعابير المجازية وبالفلسفة الباطنية (مصدر1) وهي من صِفات البلاغة والفلسفة الفكريّة العالية التي كانت تُميز تلك العصور عندما كان الإنسان يُفكّر بالحكمة ويتعلمها ويقول بها ليلاً ونهاراً.
ولكن وللأسف فأن بعض الذين قرأوا الكُتب الدينية المندائية من المندائيين ومن المُستشرقين, لم يستطيعوا أن يعرفوا المَغزى من بعض التعابير المجازية ولا الفلسفة المقصودة وبالتالي فقد تمّ تداول النصوص وأخذوا بمعانيها المُباشرة أو تأثروا بالقصص المُشابهة لها في الأديان الأخرى, مما سبب الكثير من المغالطات والتي يجب تَصحيحها.
ومن تلك المفاهيم الخاطئة نَجد موضوع يكاد يكون مُسلّم به لدى بعض كتابات المُستشرقين والمندائيين عند تناول قصّة الخليقة المندائيّة, وهو أنّ الدين المندائي قَد أُنزِلَ على آدم والذي هو بدوره كان أول أنسان يعيش في الأرض مع أول أنثى والتي أسمُها حوّاء!
وقبل أن نُجيب على هذا الطرح الغير صحيح والغير منطقي سوف نأخذ بحقيقة الآثار والحقائق العلمية حول هذا الموضوع ومنها التالي :
1. أنَّ أقدم أثر مُكتَشَف لوجود الإنسان يعود إلى 3.6 مليون عام (مصدر3,2), وهذا بغضّ النظر عن مُحاولات دَس نظرية التطور في هذا الموضوع.
2. أنَّ أصل تسمية آدم هو ديمو باللُّغة السومرية وهو يعنى الإنسان بصورة عامة, ولايعني أول إنسان (مصدر4&5).
3. أنَّ أصل القصّة التوارتية لنزول آدم وزوجته حوّاء من الجنّة هو مأخوذ من فلسفة سومرية تمّ توثيقها بهذا الختم الإسطواني الذي يُبيّن ذلك (مصدر6).
لقد كان هذا اللّغط حول كون آدم وحواء هُما أول البشر, بسبب المدونات اليهوديّة في العهد القديم والتي نَسَخت الديانات والأدب الرافديني كاملاً, ولكنها لم تكُن تمتلك أي معلومات حول تفسيره لديهم ولهذا فقد نَسَبوا جميع التفسيرات إلى المُخيّلة ومن دون مَنطق! وهُم الذين أبتدعوا هذه الحكاية وأمّا أصلها فهو بأنّ آدم هو الملك السومري الأوّل والذي أدعى بأن القوى الإلهيّة قد أتصلت به ووهبته المُلك والمعرفة الربانيّة.
وأنّ عِلم الآثار والبحوث الخاصّة به نقلاً عن الأساطير والمدونات السومريّة (مصدر4&5) يقول بأنَّ آدم كان هو المَلك الأوّل في الأرض والذي نزلت عليه الملوكيّة من السماء ويعتقد عُلماء التأريخ بأن هذا الملك هو أيلولم وكان في مدينة أريدو (مصدر7), وأنّ إحدى معاني كلمة أيلولم السومرية هي الإنسان الأوّل!
أنّ هذا الموضوع هو مُشابه لما تقول به المندائيّة فتقول بأن آدم هو الرجُل الناصورائي الأوّل, وهو رأس السُلالة الحيّة وليس الإنسان الأوّل, فنجد في الكنزا ربا هذه البوث (النصوص)
البوثة الأولى
* ”أيُّها المُختارون:
أدركوا! لقد حدثتكُم عن النور الذي ليس لهُ نهاية ولا يحدّهُ عدد.
وحدثتُكُم عن الظلام (الشر) وعن النار المُتّقدة.
وحدثتكُم عن الشيطان الذي ليس له قوّة ولا ثبات ولن يستطيع تخليص نفسه من النار الآكلة الواقدة.
هذا هو النداء الأوّل الذي وُهِبَ لآدم رأسُ السُلالةِ الحيّة, وكانت كلمةٌ وشهادةٌ واحدة (دين واحد).
وبعد ذلك أجتاح العالم السيف والوباء, وكان القَدر المحتوم أن تخرُج نشماثا من الأجساد التي فارقت الحياة, وأن تصعد للنور بدون خطايا ولا ذنوب.
وبعد ذلك بقي رام الرجُل ورود الأُنثى رئيساً للدارة (الدارة المندائيّة) فأعيدت وتنامت العوالم منهما.
لقد قُدِّرَ لآدم الرجُل الفٌ من السنين ومن آدم الرجُل الأوّل إلى رام ورود ثلاثون جيلاً.
جميعهُم يصعدونَ إلى النورِ بمسقثا واحدة (صلاة الصعود والإرتقاء), وذلك بسبب كونهم جميعاً يقومون بنفس النداء, ويسيرون بنفس الكلمة, ويشهدون بنفس التسبيح (دين واحد).
وبعد ذلك أجتاحت العالم النار الواقدة, وبقي شورباي الرجُل وشرهبيل الأنثى, وخرجت جميع النشماثا من أجسادها وصَعِدت إلى النور, وذلك لأنها لم تُكذّب النداء الأوّل ولم تُغيّر الكلمة الأولى.” الكنزا ربا المندائيّة خفاجي ودُرّاجي ص15 (البوثة الأصليّة مع المُرفقات)
البوثة الثانية
* “وبعد ذلك تُفارق الحياة حواء زوجتك وكذلك سُلالتك جميعهم، عدا رام الرجُل ورود الأنثى، ومنهُم يستمر العالم. وجميعهم ينادون بنفس الكلمة والتسبيح (دين واحد) التي أتيت أنا بها (هيبل زيوا) إلى هذا العالم وهُم يحمدون بها.
وبعد ذلك يُحرَقُ العالمُ بالنار، ولكن أبناء العائلة العظيمة للحياة الذين أتيت لهم، حيث يخرجون من أجسادهم جميعهم من عدا إثنان شورباي الرَجُل وشرهبيل الأنثى، وحيث يستمر منهم العالم، ويكون الرجُل شورباي هو رأس الدارة (الدين المندائي). وأنّ النشماثا التي خَرَجت من أجسادها بسبب الحريق يصعدون جميعهم للنور، وذلك لأنهُم لم يُكذّبوا بالنداء الذي أتاهُم من ربّهم.
…
ومن شورباي وشرهبيل ولغاية عصر نوح مرّت خمسة عشر جيلاً، وبعد ذلك أتيتُ بالقول والتسبيح أنا ومعي الأُثرييَن أخواي لكي أُبشّر للعالم.” الكنزا ربا المندائيّة خفاجي ودُرّاجي ص37-38 (البوثة الأصليّة مع المُرفقات)
ومن النصوص أعلاه نجد تأكيداً بأن النداء الأوّل هو الذي وُهِبَ لآدم وهو يقصد التعاليم الناصورائيّة ونجد أنّ شرح البوث يتّفق مع الرواية الآثاريّة السومريّة التي تقول بأنّ الملك السومري أيلولم هو أوّل مَن نَزَلت عليه الملوكيّة من السماء كما تذكُر ذلك النصوص السومريّة المُكتَشَفة, وكذلك فأنّ الحديث عن رام ورود وشورباي وشرهبيل يأتي ضمن كونهم أستمرار للسُلالة الحيّة وحفظها للتعاليم الناصورائيّة الدينيّة رُغم الشر الذي كان يُلاحق السُلالة ويسعى للقضاء عليها بكل الوسائل من السيف والطاعون إلى النار, وليس بأنّ العالم كان قد أفنيَ وهؤلاء هُم فقط من تبقى من البشر!
كما ونُلاحظ بأن هيبل زيوا هو الذي كان يأتي ضمن جميع العصور ويُعطي التعاليم والتسبيح لرأس السُلالة الحيّة, أو بعبارة أخرى بأنه هو الذي يُعطي الملوكيّة التي تَنزل من السماء على بني البشر.
والآن نذهب إلى عمليّة الخليقة المندائيّة ونأخُذ هذا النَصْ من الكنزا ربا اليمين
* “بأمرِكَ خُلِقَ كُلُ شَيء
وأمام رب العَظَمَة أستُدعيَ ومَثَلَ أثري أسمُه هيبل زيوا ويُنادى جبرائيل الرسول…
…
وقال له أذهب وأنزل إلى عالم الظلام المملوء كُلُهُ بالشرّ.
…
وكوّن الثمار والكرومَ والأشجار لتنمو في العالم وتَزدهر, والحيوانات المُطمئنّة (البسيطة التفكير) من الماشِية والأسماك والطيور المُجنّحة وجميع أنواعها ذكراً وأُنثى, ولكي تكون بخدمة آدم وجميع سُلالاته.
وليَكُن هنالك (يُخلق) رَجُلٌ وامرأة أسمائهم آدم وحَوّاء.” الكنزا ربا اليمين (البوثة الأصليّة مع المُرفقات)
أنّ هذا النَصْ يتم تكراره مرّتين في الكنزا ربا, ويُذكر هذا الموضوع أولاً ضمن الأوامر التي أصدرها ملك النُور السامي إلى الملاك هيبل زيوا, وفي القسم الثاني يكون هذا الموضوع تأكيداً من الملاك هيبل زيوا بأنه قد نَفَّذَ هذه الأوامر. وبعد ذلك يتم إعادة ذكر هذه القُصّة مع إختلافات طفيفة ويكون تكرار هذا النَصْ في الكنزا ربا مُتعمّداً لمزيد من التوكيد, كما هي العادة في الأدب الرافديني القديم.
وبالنسبة إلى القصّة التوراتيّة فهي تقول بكون آدم وحوّاء هُما الرجل الأوّل والمرأة الأولى في الأرض وهُما نزلا من السماء بعد الخطيئة التي قاما بها وهي الأكل من الشَجرة المُحرّمة, وأمّا المندائية فلا تتفق قصتها مع القصة التوراتية وحيث أنّ النَصْ كما في أعلاه يتحدّث عن خَلق الثِمار والكُروم والأشجار والحيوانات المُختلفة وجميعها تكون من أحد نوعين وهُما أمّا ذَكر أو أُنثى, وكذلك بالنسبة للإنسان وهو أمّا يكون رجُل ويُسمّى آدم أو أُنثى وتُسمّى حوّاء, وأنّ النَصْ لا يقول بخلق رجُل واحد وأُنثى واحدة كما في القصّة التوراتية!
وللأسف فقد كانت ترجمة الكنزا ربا لهذه العبارة من قِبل ليدزبارسكي لتكون رجلٌ واحداٌ وامرأة واحدة! وهو رُبما يقصد التَحريف ولكي تَبدو وكأنها مُطابِقة للقصّة التوراتية أو ربما لكونه هو نفسه متأثر بالقصّة التوراتية ولأنه يهودي, ولهذا فقد تَرجمَ تِبعاً لمفاهيمه الدينية.
وكذلك نُلاحظ في النَصْ السابق بأنَّ النباتات أيضاً كانت من نوعين ذكر وأنثى, ولهذا فلا يتناول المندائيون نباتات الفطر ولأنه يتكاثر لاجنسيّاً أي ليس فيه اعضاء ذكرية وأنثويّة! وبالمقابل نجد أنّ النخلة التي تمتاز بكونها ثُنائيّة المسكن أي توجد شَجَرة ذكريّة وأخرى أنثويّة, فهي ذات قُدسيّة وأهميّة في الطقوس المندائيّة وهي رمز الذكورة والخصب, وكذلك فهي الشجرة المُقدّسة لدى جميع حضارات وادي الرافدين من الأكديين والبابليين والآشوريين وهي رمز الذكورة والخصب لديهم أيضاً! وكذلك بالنسبة لشجرة الصفصاف أو الغَرَب فهي ثُنائيّة المسكن أيضاً, والتي لايزال يضع المندائيون أكليلاً من أوراقها على أبوابهم في عيد شوشيان, بينما كانت ترمز للحياة وتُمثّل التواصل بين العالم الكهنوتي والسماوي لدى جميع حضارات وادي الرافدين (مصدر8) وهي من الأشجار التي كانت على ضفاف نهر الفُرات, وتوجد أشجار أخرى لها قدسية لدى المندائيين وحضارات وادي الرافدين جميعها وهي تحتاج إلى بحث خاص بها, وما كان هذا التشابه إلا لأن الديانة المندائيّة هي أمتداد لديانات بلاد وادي الرافدين نفسها.
وأمّا بالنسبة للرجال المُخنثين من الذين يميلون إلى التشبّه بالنساء بسبب زيادة الهرمونات الأنثويّة لديهم أو بسبب فساد أخلاقهم, فيكون ممنوعاً أن يأخذوا أي منصب ديني مهما عملوا, ويصفهم النَصْ المندائي بأنهم مثل الإناء المكسور الذي لا ينفع إصلاحه.
وبعد ذلك نَجد النَصْ الذي يتحدث عن كيفية خلق آدم وحواء, وبأنّ النشمثا قد هَبَطت عليهم من أشجار الجنائن!
* “ومن التُراب والحُمرة والعُصارة ورواسب الريح والنار والماء والسُلالة الأصليّة والدَمِ وأسرار هذا العالَم خُلِقَ آدم وحوّاء بقوّة ملك النور السامي, ونُفخت فيهما نشمثا من أشجار الجنائن.
ولكنهم (آدم وحوّاء) لم يَعرفوها ولم يَدرُكوها (النشمثا)” الكنزا ربا اليمين (البوثة الأصليّة مع المُرفقات)
والآن نُلاحظ بأنّ أشجار الجنائن كانت الوسيلة التي هبطت بها النشمثا على آدم وحوّاء حسب القصّة المندائيّة! وهذا يتّفق مع مُعتقدات بلاد وادي الرافدين التي كانت تعتقد بأن الأشجار العالية والمُقدّسة مثل شَجرة الأرز كانت هي مَسكن الآلهة (مصدر8) ولهذا فعندما شَرَعَ كلكامش وإنكيدو بقطع تلك الأشجار أرسلت عليهم الآلهة الثور همبابا, كما جاء ذلك في ملحمة كلكامش.
ومن البوث السابقة ولمن يُقارن هذه القصّة المندائيّة لآدم وحوّاء والتي هي تتفق مع القصّة الآثاريّة السومريّة, فسوف يجد بأنها منطقيّة وجميع أحداثها في العالم الأرضي الواقعي ضمن فلسفة عصرهم ومرحلتهم التأريخيّة, وأمّا القصّة التوراتيّة (مصدر4) التي نَسَخت النصوص السومريّة- المندائيّة ولكنها لم تمتلك تفسيراً منطقياً لها ولأنها أصلاً ليست فلسفتهم الدينيّة, ولهذا فقد أخذتهم المُخيّلة إلى أماكن بعيدة عن الواقع البشري وربطته بقصص تعتمد على الأسطورة والخُرافة أكثر منها تحليلاً للأدب واللاهوت الذي كان موجوداً في تلك العصور القديمة.
ولمزيد من التأكيد حول كون تسمية آدم وحوّاء التي تُذكر كثيراً بكتاب الكنزا ربا هي تعود إلى تَسمية مجازيّة تخص آدم وزوجته وهو الإنسان الناصورائي المُلتزم بتعاليمه, وليس لآدم أول رجُل في الأرض!
فنجد البوثة التالية وهي تُبين بأن آدم المقصود في هذا النَصْ, هو يعيش في عصور حديثة نسبياً عندما كانت هُنالك العديد من الحضارات قائمة!
* “قالوا : ياآدمُ أصمُتْ.. أصمُت ياآدم. أنت ماضٍ إلى بَلَدِك.. مُلتَحِفاً ضياءك, وحَّواءُ سَتَصعَدُ وراءك.. ونَسْلُكَ كُلّهُ سيأتي وَراءَك.
الدّهورُ كُلّها ستَدول, والمخلوقاتُ ستَزول. تَنضُبُ الآبار, وتَجِفُّ الأنهار, وتتَيبَّسُ البحار .. تتَفتَّتُ الرِّجام, وتتَهدَّمُ الجبالُ والآكام. تَجدُّ طُلول, وتَمحِّي طُلول. بابلُ تزول, والصِّينُ تَحول, ويذهبُ الفرسُ والرُّومُ والمغول..” الكنزا ربا اليسار ص16
وكذلك توجد بوث كثيرة أخرى في الكنزا ربا اليسار تتحدث عن صعود نشمثا آدم, ضمن قصص مُختلفة يُمكن معها التمييز بأن تسمية آدم هي مجازيّة, للمندائي المؤمن الصاعد لبلد النور.
أنّ هذا البحث كان قد رَكّز على خلق آدم البشري, وليس على خلق صورة آدم النورانية التي أنبثقت من الحياة العُظمى والتي خُلِقَت قبل آدم البشري بدهور سحيقة, وهو آدم كسيا أو آدم الخفي. وحيثُ أنّ فلسفة آدم كسيا هي فلسفة عميقة وتحتاج إلى بحث كبير لتبيانها وخاصّة بأن طقس المسقثا بكامله يُعد كجانب واحد في فلسفتها المُتشعّبة, ولهذا فنتركه لبحث قادم.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
المصادر
1. مقالة: المَعرِفَة الناصورائية والتعابير المَجازيّة, سنان سامي الجادر
2. مقالة: حول أقدم أثر للبشر Smithsonian Institution
3. مقالة: آثار ما قبل التاريخ, غادة الحلايقة
4. مقابلة مع الدكتور خزعل الماجدي حول تسمية آدم التي تعود إلى الملك السومري إيلولم.
5. كتاب أنبياء سومريون ؛ كيف تحول عشرة ملوك سومريين إلى عشرة أنبياء توراتيين ؟ – خزعل الماجدي
6. مقالة: جنة عدن بين الطوفان والخلود, د. بهنام ابو الصوف
7. مقالة: اريدو اقدم مدينة في التاريخ، نصير باقر امير
8. مقالة: TREES AND RELIGION – ANCIENT MESOPOTAMIA, الأشجار والدين – ميسوبوتاميا القديمة