تعريف اليردنا فقهياً وعلمياً

مقدمة:-
أنّ موضوع البَت في الطقوس الدينيّة المندائية وكيفية إجرائها يتم حصرياً من قبل تَجمعات رجال الدين, ولكن هذا البحث هو لمساعدتهم على تجاوز الخلافات التي شقّت وحدة الطائفة بسبب الإختلاف على تعريف اليردنا, فإن كان أختلافهم فقهياً وليس سياسياً فهذا البحث سوف يُساعدهم, ولكي يستطيع المندائيون التفرّغ لمجابهة التحديات الخارجيّة الوجوديّة.
أنّ أقدم تعريف لدينا عن اليردنا هو نهر الفُرات الكبير (2700 كم) وذو الجريان السريع وعلى ضفافه قامت جميع الحضارات الرافدينيّة والتي يُعد المندائيون أستمراراً لفلسفاتها الدينيّة, ولهذا فهو أقدس الأنهار لدى المندائيين.

الماء علمياً:-

الماء هو العنصر الوحيد الذي يُغلّف الأرض ويتخللها بكل مكان وحتى بداخلها, وحيثُ انه يتحول إلى ثلاث حالات في الطبيعة وهي الصلبة والسائلة والغازية. وأن الماء في الكُرة الأرضيّة أجمعها لا يكُف عن الحركة والإنتقال السريع من مكان لآخر, وبنفس الوقت فهو يتحول إلى حالاته المُختلفة, ولمّا كانت عملية تحول الماء إلى الحالة الغازية مُستمرة في جميع الأوقات وفي جميع الأماكن وبدون الإنقطاع لتكوين بُخار الماء وهو أنقى حالاته ويكوّن حوالي 2% من حجم الهواء ويختلف من منطقة لأخرى, ولكن المُهم فيه أنه يربط جميع المُسطحات المائية من أنهار وبحيرات وبحار ومحيطات ومستنقعات وينابيع وعيون ماء ومياه جوفيّة تجد لها منفذ, وغيرها من مصادر المياه الطبيعية وحتى الإصطناعية, فجميع هذه الأماكن تكون مُرتبطة مع بعضها البعض بواسطة الحالة الغازية للماء (البُخار) وبعد ذلك تُقرر الطبيعة أين يَسقُط بخار الماء هذا بعد أن يتكثّف على شكل مَطر.

الماء فقهياً:-

بوثة 1*”سَيرى شلماي وندباي في غَيمتهما الكبيرة والخفيّة الأولى, وهُما يسكُنان بها ويأمران جميع اليردني” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص305 الأصلية مع الصور المُرفقة.
مع وجود الإحتمال بأن استخدام كلمة الغيمة هُنا من الممكن أن تكون تعبيراً مجازياً لمكان خفي لا ندركه؟

ولمّا كان الماء الحيّ وهو اليردنا حسب الفلسفة المندائية مُختلطاً مع الماء الأرضي, فتكون نتيجة حركة الماء أنه لا وجود لمكان يحتوي على الماء الحيّ أكثر من غيره, وأنّ جميع المياه هي صالحة للطقوس إذا ما كانت صالحة للحياة, ولكن توجد إعتبارات أخرى تُعطي الأفضليّة لأداء الطقوس في الطبيعة ومن مصادر المياه الطبيعيّة إن أمكن ذلك.

وتكتسب اليردني أهميتها لدى المندائيين من كونها الوسط الذي تُجرى به جميع الطقوس الدينيّة, وحيثُ أنّ الطقوس هي من الثوابت والتي يجب أن لا يتركها المندائي لا جزئياً ولا كليّاً مهما حَصَل في جميع الأوقات والظروف, ومَن يترك الحدود والتي هي التعاليم الدينيّة والقوانين الأخلاقيّة المذكورة بالنصوص الدينيّة, تُعينه الثوابت وهي الطقوس ومبادئ الدين المندائي, وأمّا مَن يتركهما معاً فسوف يَغرق وليس له مُنقذ.

بوثة 2* ”أنا (هيبل زيوا) عملتُ الحدود وناديت على الناصورائيين الصادقين والمؤمنين وقُلت لهم:
الذين تُعينهم الحدود فسوف يرتقون لموطن النور, والذين يبتعدون عن الحدود فسوف تُعينهم أحجار الحدود (الثوابت). وأمّا الذين يبتعدون عنهما كليهما, فأنهم غير مُستحقين وليس لهم أن يصعدوا” دراشا اد ملكي, الأصلية مع الصور المُرفقة.

بوثة 3* ”ثُمّ في نهاية العالم نأتي نحن -أنُش أثرا- لنشماثا الكاملين ولنشماثا المُخطئين …
الذين تركوا اليردنا والرسم -الرشامة- والصباغة ويردنا الماء الحي” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص41-42 الأصلية مع الصور المُرفقة.

بوثة 4* “لم أنسَ صلاتي اللَّيليّة ولم أنسَ يردنا السَّني ولم أنسَ صباغتي ولم أنسَ رسمي -الرشامة- المُبارك ولم أنس يوم الأحد ولم أنقطع عنه ولم أنسَ شَلمَي وندبَي” دراشا اد ملكي, الأصلية مع الصور المُرفقة.

وحيثُ أنّ جميع رجال الدين هُم مُتفقون على حتميّة إجراء الطقوس الدينيّة اليوميّة مثل الطماشة (طقس الطهارة) والرشامة في أوقاتها (الوضوء الذي يسبق البراخا) ولهذا ففي عصرنا الحالي لا يوجد لديهم بديل سوى القبول بالطماشة في ماء الإسالة, بعد الجنابة وهي الوصول للشهوة الجنسيّة في أي من مراحلها, وكذلك بعد العودة من العمل أو الأسواق وفي حالة حَمل الجنازة أو مسك الحائض, وثلاث مرّات في اليوم قبل الرشامة.
وأمّا في الزمن القديم فكانوا يجلبون الماء في أواني من النهر ويخزنونه في بيوتهم لهذا الغرض ولأنه لم يكن يوجد بديل آخر, ومنطقياً فأن هذا يُعدُ ماءً مقطوعاً ويفقد طهارته أذا مَسّه شيء غير طاهر ولأنه غير متصّل باليردنا! ولكن هذا الحل غير عَملي في وقتنا الحالي لصعوبته وللحاجة إلى شخص آخر مُتطهّر يسكُب الماء, وبسبب بعد السكن عن الأنهار والحاجة إلى كميات كبيرة من الماء يومياً, وأمّا مَن يُقصّر في طقس الطهارة المُهم هذا فهو يؤثر على جميع طقوسه الأخرى.

بوثة 5* ”أذا قَرِبتُم من أزواجكم فطهّروا أنفُسكُم بالماء جيداً جداً.
أمسحوا وطهّروا فلو بقيت شعرة واحدة (لم تُشطف) فلن تتطهّروا” دراشا اد ملكي, الأصلية مع الصور المُرفقة.

بوثة 6* (أباثر يسأل هيبل زيوا)
”هؤلاء الذين يذهبون إلى الأسواق والطرقات, ولايتطهرون بالماء وبعد ذلك يؤدون الصلاة بأي يردنا أطهرهم؟” من مخطوطة أباثر نُسخة دراور, الأصلية مع الصور المُرفقة.

ومما لاشكّ فيه هو أنّ الأنهار هي أحد أشكال اليردني المقصودة بالنصوص المندائيّة مُنذ القِدم ولغاية الآن, وأنّ جميع المندائيين الذين يَرومون إجراء الطقوس الدينيّة في أوقاتها من الطماشة والرشامة والصباغة فعليهم أولاً أن يُجرونها في الأنهار أو الجداول الطبيعيّة إن كانت مُتاحة لهُم ولا تُشكل الظروف الجويّة أو البيئيّة عائقاً. وهذا كان الحال في قديم الزمان عندما كان المندائيون القدامى يسكنون ضفاف الأنهار ولابديل لهم عنها, ولكن الآن قد تغيّر هذا الموضوع ولم يعد المندائيون يسكنون قرب الأنهار في طقس العراق وإيران الحار صيفاً والمُعتدل شتاءً, وكذلك لم تَعد الأنهار كما كانت في السابق ومن ناحية النقاء والتأثير الصناعي وإمكانيّة الذهاب لها.

ولمّا كانت الظروف قد تغيّرت وأصبحت صَعبة من هذه الناحيّة, فأن الحيّ العظيم لم يكُن ليدع هذا الموضوع يَمنع المندائيين من أن يستمروا في طقوسهم الدينيّة, ولهذا فقد كانت الثورة الصناعيّة في القرن العشرين والتي وَصلت إلى الشرق الأوسط قد مكّنت الجميع من إمتلاك مياه غير ملوّثة تصل إلى بيوتهم, وبسبب كون هذه العمليّة حديثة بالزمن, فكان يجب على رجال الدين أن يُقرروا إذا ما كانت هذه المياه صالحة أيضاً لإجراء الطقوس الدينيّة من عدمها.

وحيثُ أننا قد أسلفنا بأن رجال الدين قد أتّفقوا على أنّ طقس الإغتسال الديني والذي هو الطماشة مقبول بمياه الإسالة, ورُبما حتى الرشامة ولأنه لايستطيع أحد أن يذهب للنهر ثلاث مرات في أوقاتها كل يوم لأدائها! إلا أذا كان يترك الطقوس في بعض تلك الأوقات؟ وهذه خطيئة بالنسبة لرجُل الدين.
ومع ذلك فأنّ مَجموعة منهم قد مَنَعت إستخدام ماء الإسالة لغرض الصباغة والتي بُنيت من أجلها أحواض ويتم ضخ الماء إليها من أنابيب الإسالة ويخرج بنفس الوقت منها للتصريف, فتكون بهذه الحالة مُشابهة لوصف الأنهار من حيث وجود المنبع والمَصبّ.

الفِرق الغنوصيّة المسيحيّة:-

أنّ رجال الدين الذين يَتطهرون بماء الإسالة أثناء الطماشة ويحللونه, هُم نَفسهم قد مَنعوا طقس الصباغة في الأحواض التي تأخذ مائها من الإسالة بسبب أعتقادهم بوجود بعض البوث التي تُحرّم الصباغة في الأحواض, ولو عُدنا إلى تلك البوث فسوف نَجد بأنها جميعها كانت تتعلّق بالمدارس المسيحيّة المُختلفة في بداياتها, وبديانات أخرى مُنشقّة عن المندائيّة وليسوا مندائيين ولأنهم كانوا ينزلون إلى تلك الأحواض بأسم آلهة أخرى غير الحي العظيم, وكذلك فهم يقومون بالطقوس بطريقة مُختلفة عن طقوسنا نحن. وتلك الفِرق الدينيّة في بدايات المسيحيّة هي ما يُطلقون عليها بالديانات الغنوصيّة أو المعرفيّة والتي يُحاول المُستشرقون أن يجمعوننا معها عندما يتجنبون تَسمية المندائيين أو الناصورائيين وإنما يقولون الغنوصيين ولكي يُلغوا قِدَم المندائيّة على المسيحيّة, فهي كَلمة حَق أُريد بها باطل! وحيثُ أن تلك الفِرق قَد بَدأت بعد إنتشار المسيحيّة ولأن الرومان كانوا يَقتلون أي شخص لا يُدين بالمسيحيّة في جميع مُستعمراتهم, ولهذا فقد كانت جميع تلك الفرق التي يسمونها بالغنوصيّة تَعترف بالمسيح, وإن حاول البعض منها المُحافظة على الطقوس المندائيّة ولكن بتحريفها لكي تكون مُناسبة للدين التبشيري الجديد, والذي يُريد تسهيل جميع الطقوس لكي يَدخُل أكبر عدد مُمكن من الناس فيه (مصدر1). وفي الصورة المُرفقة من كاتدرائيّة آيا صوفيا في أسطنبول والتي قُمتُ بتصويرها بنفسي, يوجد أحد أحواض التعميد المسيحيّة, وكانوا يجلبون الماء له بواسطة الجرار الفُخاريّة وليس المعدنيّة, وتوجد طريقة التعميد وجلب الماء له بالجرار مشروحة وموثّقة تأريخياً في آيا صوفيا نفسها والتي تَحوّلت إلى جامع حالياً, لِمَن يُريد أن يطّلع عليها.

وفيما يلي بعض من تلك البوث المذكورة حول تحريم الصباغة في الأحواض الخاصّة بالفِرق الغنوصيّة

بوثة 7* ”ثُمّ تكلّم منداادهيي لجميع نشماثا الناصورائيين الذين تمّ رميهم في الظلام, والذين كانوا قد وُسِموا بوَسم الحيّ العظيم, ولكنهم خرجوا عن طريق الحي, ونزلوا إلى اليردنا بأسم .. غير الحيّ العظيم, فمن سَوفَ يَغفر لهُم خطاياهُم؟” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص235 الأصلية مع الصور المُرفقة.
وهذه البوثة واضحة بأنها تقصد الذين يتعمدون بدون ذكر أسم الحيّ العظيم عليهم.

بوثة 8* ”أنا هو الإله أنا هو أبن الإله وأرسلني أبي إلى هُنا.
أنا هو الرسول الأوّل وأنا الأخير, أنا هو الأب وأنا الأبن وأنا الروح القُدس….
… وبالدم.. وبالماء المقطوع يُعمدهم (تعميد وليس صباغة) ويُحرّف الصباغة الحيّة ويُعمّدهم بأسم الأب والأبن والروح القُدس. ويقطعهم عن الصبغة الحيّة في يردنا الماء الحيّ التي أصطبغت أنت فيها يا آدم” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص44, الأصلية مع الصور المُرفقة.
والدم هو إشارة إلى سر الأفخارستيا أو القربان المسيحي, وكذلك تَذكُر البوثة بأنهم يتعمدون بدون التوحيد وهو ذكر أسم الحي العظيم.

بوثة 9”وتُحرّف طقوس الرَجُل الغريب, وتَحفُر في الأرض حوضاً, وتَسرُق الماء من اليردنا وتغليه بالنار ثُم تصبّه في الحوض, وتُعمّد به الرجال والنساء وهُم عُراة وتُعطيهم منه ليشربوا, وتذكُر أسم الموت عليهم وتُعمّدهم بأسم الأب والأبن والروح القُدس, وتذكُر عليهم أسم ..” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص210, الأصلية مع الصور المُرفقة.
وهذه البوثة تأكيد آخر بأن هذه الطقوس هي غير مندائيّة وإنما هي من طقوس تلك الفرق الغنوصيّة التي تَعترف بألوهيّة المسيح وتُحرّف الطقوس المندائيّة.

ضفتي اليردنا:-

أنّ الذي يُميّز أماكن العبادة المندائية فهي منذ الأزل كانت مبنية من الطين والقَصَب والعناصر الطبيعيّة فقط فلا يَدخل في بنائها أي معدن ولا مسمار واحد ولا تُزيّن ويغلب عليها طابع البساطة والبدائية, ولأنها أساساً مُخصصة للعبادة من قبل النساك الزاهدين في الحياة والساعين إلى ترك زينة وبهرجة الحياة مقابل الأستثمار في الآخرة, وليست كمظهر للترف وللفخامة وكما تحولت إليه الآن بسبب تقليد بيوت العبادة للأديان الأخرى والتي تُحاول أن تُبهر الناظر فهي قُصور أكثر منها بيوت عبادة للزاهدين في الحياة! ولمن كان مؤمناً ويسعى للتقرّب من الحيّ العظيم بطقوسه, فعليه أن يتطلّع إلى أماكن العبادة ذات الطابوق والمرمر الفخم ويقارنها مع الأنهار والبحيرات وأشجار الغابة وزقزقة العصافير وحركة الحيوانات ولكي يعرف أي المكانين أقرب للحياة وأقرب لتعاليمنا ولمعابدنا الحقيقيّة! وهذا هو المقصود بشهادة ضفتي اليردنا وهي جميع الحياة والنشماثا الموجودة فيها وليس الجماد نفسه الذي يُكوّن ضفّة النهر.
وحيثُ أنه يَتم ذكر اليردنا وضفتي اليردنا في بعض النصوص عند الإشارة إلى كونها تُحسب كشهود على الطقوس الدينيّة والصباغة التي يقوم بها المندائي عند مُحاسبة النشمثا العائدة له بعد الممات.

بوثة 10* ”اليردنا وضفتيه كانوا شهوداً لنشمثا.
الصباغة التي أصطبغت بها والبُهثا (الخبز المُقدّس) والكشطا (العهد) والممبوغا (الماء المُقدّس) شَهدت لنشمثا.
الأجر والصَدقة والصباغة شَهدت لنشمثا” الكنزا ربا اليسار المندائية خفاجي ودُرّاجي ص95, الأصلية مع الصور المُرفقة.

وبكون اليردنا وهو النهر في هذه الحالة يُعتبر كعُنصر حَيّ حسب الفلسفة المندائيّة, ولهذا فمن المُمكن أن يكون شاهداً لجميع الفعاليات التي تُجرى فيه, ولكن ماذا عن ضفّتي النهر؟ وكيف تشهد الضفّتين وهُما جماد؟
وأيضاً فأن بعض المُفسرين الذين لايُدركون التعابير المجازية التي يتبعها الناصورائيون في ترميز التعاليم والفلسفة (مصدر2), فقد أعتبروا بأن وجود الضفّتين في تلك النصوص هو دليل على أنّ اليردنا هو فقط المجرى المائي الذي له ضفّتان أي الأنهار, ولهذا فقد أستثنوا حتى البُحيرات الطبيعيّة من هذا الوصف, وطبعاً فأن الماء في البُحيرات له حركة عموديّة وتتصل بالمياه الجوفيّة فهي ذات ماء جاري.
ومن المعروف بأن المندائيين كانوا يسكنون ضفاف الأنهار ولأن جميع طقوسهم تكون فيها, وعند الصباغة يكون وجود أشخاص آخرين على الضفتين هو حتمي, وخاصة في وقت الصباغة فلا يستطيع أي فرد أو رجل دين أن يصبغ نفسه بنفسه ومن دون وجود آخرين أو مساعدين شكندا وطبعاً توجد أيضاً مجموعة من المندائيين الذين يرومون الصباغة, وكذلك بوجود الأشجار والطيور والحيوانات وجميعها من الحياة فتشهد لتلك الطقوس.

أنَّ أحواض الصباغة كانت مُعتَمَدة مُنذ القِدَم وهي تعتمد على وجود قناة تسحب الماء من النهر وقناة أخرى تُصرّفه إلى مكان آخر، وليس بالضرورة أن تُعيده للنهر (مصدر3) وهذا كان موجوداً في المنادي المندائيّة القديمة ومنها مندي اللطلاطة الذي صوّرته دراور ورَسَمَت مُخططاً له كما في الصورة المُرفقة.
وأيضاً فأن هذه الأحواض كانت معروفة مُنذ عَهد السومريين الذين كانوا يُقدّسون آله الماء أنكي ويُسمى آيا بالأكدية, ويوجد أحد تلك المعابد باقية لغاية الآن في آثار أريدو قُرب مدينة ذي قار (مصدر4), وهي من أسباب تأكيد الأصول السومرية للمندائيين.

ونُكرر بأن المُحرّم في المندائيّة هو ترك الطقوس بعضها أو جميعها, بحجة عدم وجود يَردنا وليس نوع الماء ولا المكان شرطاً لأداء الطقوس, وإلا فلو كانت المندائيّة تتطلّب ظروفاً خاصّة لأداء طقوسها لما أتت التعاليم بهذه الدقّة حول أوقات وكيفيّة أداء تلك الطقوس, بينما أغفلت الأماكن الجغرافيّة التي يجب أن يسكنونها والظروف الجويّة المُناسبة!

أنَّ رَجُل الدين الذي يفتي بتحريم ماء الإسالة للطقوس, هو يَتحمل ذَنب جميع الذين سوف يُصدقونه ويمتنعون عن الطقوس عند عدم إستطاعتهم للذهاب إلى النهر في طقوسهم, وذنبه مثل ذنب الذي يَمنعهم بالقوّة. وهذا طبعاً سوف يُبعدهم عن الطقوس بأوقاتها وعن الدين شيئاً فشيئاً وحيث أن الحدود هي التعاليم المذكورة بالنصوص والثوابت هي الطقوس والمبادئ (بوثة رقم 2).

وأنّ حالة عدم اليقين بمساواة ماء الإسالة مع اليردنا من قبل الشيوخ الرافضين لهذه الفكرة, تَدفعهم مع ذلك إلى الحاجة إلى شَد جميع صنابير المياه خلال الكرصة في كنشي وزهلي (الأجتماع والتنظيف), ولو كانوا متأكدين من إنها لا تُحتَسَب يردنا لما فَعلوا هذا!

وكذلك فأنَّ رَجُل الدين الذي يَفتي بمساواة الطقوس في ماء الإسالة معها في ماء النهر فأنه سوف يتحمل ذَنب الذين يتركون الطقوس في ماء النهر أو البُحيرات إن كان مُتاحاً لهم جغرافياً وطقسياً, ويَستخدمون ماء الإسالة لأنهم يُساوون بينهما بالأهميّة.

* ”السلامة والتزكية لكُم أيُها الملكي والأثري والمساكن واليرادن والجداول وبيوت العبادة في عالم النور” من كتاب النياني المُبارك بوثة أسوثا ملكي
في مُعظم الصلوات نحن نبتهل إلى يردني وأرهاطي, وهذا يعني بأن الجداول الصغيرة الطبيعية (Streams) هي بنفس صلاحية الأنهار من حيث الطقوس, ونَبحث ان كان فتح ماء الإسالة وجعله يصب في حوض سوف يكون مناسباً للطقوس بنفس حالة الجداول, وحيث أنه يُسحب من مصادر المياه الجارية أفقياً وهي الأنهار, أو الجارية عمودياً وهي البحيرات والتي يكون جريانها من المياه الجوفية نحو البحيرة في الأعلى. وبعد ذلك تتم عملية فلترة للشوائب وإضافة مواد كيميائية لغرض تعقيم الماء من البكتريا التي تتكون في الأنابيب وفي حالات تعقيم أخرى يتم التعقيم بأستخدام الأشعة الفوق البنفسجية. وكذلك بالنسبة لمياه الآبار فأنه يجري تعقيمها بالمواد الكيميائيّة مرتين في السنة على الأقل ولكي تكون صالحة للأستخدام, وطبعاً تحتوي مضخات الآبار على أنابيب البلاستك وتقوم بضغط الماء وبنفس تأثير ماء الإسالة وبالتالي فأنّ الذي يَعترف بصلاحيّة ماء الآبار للطقوس فعليه أن يَعترف بماء الإسالة بنفس المقدار.

ومن القصص التأريخيّة فأن المندائيين في حرّان عندما كانت تتبع للإمبراطوريّة الفارسية, فحاصرتهم الجيوش المسيحيّة البيزنطيّة ولم يعودوا يَستطيعون الذهاب إلى جداول نهر الفُرات للطقوس, فما كان منهم إلا أن يُنظّموا أنفسهم لأداء الطقوس في بئر وحيد في المدينة وطبعاً يَسحبون الماء بواسطة الدلاء, وهذا مثال على أنهم لا يتركون الطقوس مهما حَصل ويستخدمون الماء المتوفر عند الضرورة.

وأمّا الحُكُم في هذه القضيّة الحساسة فربما يكون من الأنسب تَركه للناس الذين يَرومون أداء الطقوس ولكي يأخذ كُل منهم قراره تبعاً لأولوياته وقدرته وظروفه وحالته الصحيّة, فلم يُنصّب حاكماً في هذه الدُنيا سوى منداادهيي ليحكُم على المندائيين والناصورائيين.

أنّ الأهم من نوع اليردنا ونقائها للصباغة وللطقوس هو نقاء رَجُل الدين نفسه, وحيثُ أنّ فَلسفة الصباغة هي غفران خطايا المُصطبغ وأعطائه العهد وتَوحده باللوفا مع الصابغ ومع المجموعة التي أصطبغت معه, ولهذا فيكون النقاء هو أوّل وأهم الشروط التي يجب أن تتوفّر بالصابغ وأن يَكون تقيّاً ورعاً زاهدا بالدنيا ومُعظّماً للآخرة, فلا يُقدّم المال على الإيمان ولا يَضعُف أمام مُغريات الجسد مهما كانت (مصدر5) وأن يكون عالماً فاهماً للفلسفة الدينيّة والحياتيّة ولهذا فهُم يُشبّهونه بالجوهرة, وتوجد العديد من البوث التي تُحذّر وتتوعّد من تكريس أي رجل دين جديد لايتم التيقن من توفر تلك الشروط فيه, وللزيادة في الحُرص على أهميّة هذه النقطة فقد دأب الناصورائيون إلى وضع شروط حول نقاء أسرة رجل الدين حتى الجيل الثالث ولكي يكونوا من عائلة مشهود لها بتلك الصفات.
ولكن للأسف فأنّ نقاء رجل الدين نفسه ومدى تحقق تلك الشروط فيه قد أُهمل في وقتنا الحالي, ولكن بقيت الفقرات المُتعلّقة بسيرة العائلة والتي يُفترض بأنها تكون ثانويّة بالنسبة إلى تلك الشروط الأساسيّة.

سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ

المصادر
1. مقالة: الأستعمال السياسي للأديان التبشيريّة, سنان سامي الجادر

2. مقالة: المَعرِفَة الناصورائية والتعابير المَجازيّة, سنان سامي الجادر

3. كتاب الصابئة المندائيّون, دراور ص151-152

4. commentarii periodici pontificii instituti biblici rome, 1932, وهذا المصدر مذكور في كتاب دراور النسخة الإنكليزيّة ص142

5. مقالة: العِلم والمَعرفة أساس المندائيّة, سنان سامي الجادر

من mandaean