الناصورائيّة والمندائيّة ..وليس الغنوصيّة (الجزء الأول)

لقد صَرَعَ المُستشرقون رؤوسنا بمصطلح الغنوصية الذي يُطلقونه علينا وفي كُل مكان وفُرصة وهُم يحاولون تَجنُب التَسمية الأصلية لنا وهي الناصورائية والمندائية, ولكن لماذا يا ترى هذا الإلحاح منهم على هذه التسمية؟

أنَّ النيّة هي طبعاً غير سليمة, ولأنهم يُريدون أن يجمعوننا مع إحدى الفرق المسيحيّة في بدايات الميلاد وصولاً إلى المانويّة والتي كانت تعترف بالمسيح أيضاً, وهذا في سبيل أن يلغوا القِدم المندائي على المسيحيّة واليهوديّة.

وحيثُ أنَّ المسيحيّة في بداياتها كانت عبارة عن نوعين من الفرق أحدهما شرقيّة وتحمل فلسفة توحيديّة ولكنها تجعل من المسيح نبيّاً بشريّا, والفرقة الأخرى كانت غربيّة وتلك تحمل الموروث الثقافي الغربي الذي كان يُقدّس الأشخاص ويجعل منهم آلهة فأصبحوا يؤلهون المسيح وصولاً إلى فلسفة الثالوث المقدّس, ولاحقاً انتصرت الفرقة الغربيّة لا بالنقاش والأدلّة الفلسفيّة وإنما بقوّة الرومان العسكريّة, وأمّا الموحدون المسيحيون فتم القضاء عليهم وحرق كتبهم أسوة بباقي الأديان التي قضت المسيحيّة الرسميّة عليها جميعاً وأحرقت كتبهم (مصدر1), واستمروا على هذه الحال لغاية القرن التاسع عشر.

أنّ قصّة الدين المسيحي والذي كان موحّداً في بداياته, هي أصلاً قد نشأت في بلاد الرافدين (مصدر2), والتي كانت الأغلبيّة فيه تتبع الدين المندائي, فأبقوا على طقوس العرفان الناصورائي للوصول إلى معرفة الفيض الإلهي الذي يحل على الأنقياء من البشر, ولهذا فكانوا قد حوروا طقس الصباغة المندائي والذي يجري باسم الحيّ العظيم, إلى طقس التعميد الذي يجري باسم المسيح, ولانعرف حقيقة شعور هؤلاء من ناحية تغيير هذا الطقس ولأن القوّة العسكرية الرومانية كانت سيوفها موجّهة نحو كُل من لا يعترف بالدين المسيحي الرسمي في جميع مُستعمراتها, ولاحقاً في القرن الثالث بعد الميلاد ظهرت المانوية التبشيريّة وحيث أنها تبنّت كامل الفلسفة المندائيّة فنسخت الكتب المندائيّة جميعها, والتي وصلنا منها مخطوطات نجع حمادي وحيث يؤكد الباحث السويدي سودربيرغ الذي درس تلك المخطوطات بلغتها القبطيّة (مصدر3) بأن المانويّة تنسخ بصورة مباشرة عن الكتب المندائيّة, ولأن ماني كان مندائيّا وأنشقّ لاحقاً ليكوّن الدين الجديد (أبن النديم ص392) وهذه مثل قصّة المسيح الذي كان تلميذاً ناصورائيّاً كرّسه يهيا يهانا كرجل دين (مصدر4), ولكنه قام بتغيير التعاليم ليجعل الدين تبشيريّاً بعد أن كان نخبويّاً.

وحاولت المانويّة أستقطاب الناس جميعاً, فكانت تعترف بالمسيح نبيّاً بشريّاً وتعترف بالزرادشتية أيضاً وذلك تجنباً للصدام مع الإمبراطوريّة الفارسيّة المُجاورة, وحتى أنها أخذت الأفكار البوذية معها ولتُنتج خليطاً يُعجب الجميع فوصلت إلى الصين, أي أنّها تبنّت فلسفات متعددة والغرض منها هو مكسب سياسي أيضاً ولأنها كانت تبشيريّة. وأنّ الديانات التبشيريّة مثل المانويّة والمسيحيّة لهما دوافع سياسيّة, وليس القصد منها هو العبادة فقط (مصدر5)

وكذلك أزداد استعمال مصطلح الغنوصيّة, وجرى جمع الدين المندائي تحت هذا الاسم مع عدد كبير من الأديان بعد الإعلان عن أكتشاف مخطوطات البحر الميت أو كهوف قمران عام 1947 والتي أصبحوا يدرسونها في الجامعات منذ ذلك الحين, ولكن أتضح حديثاً بكونها مزورة (مصدر6&7), ولأن الإسرائيليين أدّعوا بأنهم قد وجدوا قدر كبير من الفلسفات الدينيّة المختلفة والقديمة والتي تشبه عبادات بلاد الرافدين, ونسبوها لأقوام وهميين يدينون باليهوديّة ولكي تكون لأجدادهم, فتُصبح تلك الفلسفات كأنها قد أتت منهم!

لقد تعرّف المحتلون اليونانيون منذ عهد الإسكندر الأكبر على الناصورائيين في بلاد الرافدين, وأستمرّت هذه المعرفة خلال الإحتلال السلوقي لمملكة ميسان, وقد فهموا بأن لديهم طقوساً وتعاليم لمعرفة الخالق والإحساس بإلهامه, ولهذا أطلقوا عليهم تسمية الغنوصيون وتعني العارفون بالله.

أنّ المُحاولات الحثيثة من المُستشرقين لدعوتنا بالطائفة الغنوصية هي لغرض جمعنا مع الفرق المسيحية في بداياتها أو مع المانويّة أو حتى مع الأقوام اليهوديّة الوهميّة من المخطوطات المزوّرة, وليس لأنهم يعترفون بالعرفان الناصورائي. واهمٌ هو مَن يعتقد بأن الإمبراطورية المسيحية-اليهوديّة التي تَحكُم العالم الآن, سوف تُسلّم بقِدم المندائية عليها وبكون عيسى المسيح كان تلميذاً ناصورائياً. وعندما يَنعتنا المُستشرقون بالغنوصيين فهي كلمةُ حَق أُريدَ بِها باطل!

أن المندائيين بعددهم الصغير مقارنة بباقي الديانات وبإمكانياتهم الفرديّة المحدودة التي لا تُمكّنهم حتى من شراء معابد لطقوسهم في الدول التي تغرّبوا بها, قد أصبحوا يُشكلون خطراً وأهميّة للمنظمات الدينيّة التي تحكم العالم منذ القرن التاسع عشر, وحيث أنّ الدول الغربيّة وإن كانت في طليعة البلدان المتقدمة ولكن كثير من قياداتها المجتمعيّة والإقتصاديّة, لاتزال تحت تأثير التاريخ القديم لهذه الشعوب ومن أهم تلك التأثيرات هو تصديق وجود الخوارق لقوى ما فوق الطبيعة وتجسّد الآلهة في هذا العالم, والتي نجح العبرانيون بربطها بقصص العهد القديم, وبالتالي أصبحت تلك الروايات هي الرابط الذي يُسيطرون به على العالم المسيحي, وهُنا تأتي الشواهد الآثاريّة الرافدينيّة والرواية المندائيّة الدينيّة والتاريخيّة, لتُسبب شكوكاً جديدة لم يكونوا يعرفونها سابقاً تتعلق بأصل تلك القصص التوراتيّة المزعومة. ولهذا فقد بذلوا جهوداً كبيرة في تلفيق نظريّة الأصل الغربي للمندائيين (مصدر8).

وفيما يلي سوف نُبرز أهم الاختلافات بين الدين المندائي وبين الأديان الغنوصيّة التي تشمل الفرق المسيحيّة القديمة والمانويّة, ولانعترف بفصل الديصانيّة والهرمسيّة عن المندائيّة, ولأن تلك مجموعات ذات فلسفة مندائيّة لا تقبل الشك. وكذلك فسوف نستبعد جميع الطوائف اليهوديّة التي ذُكرت في مخطوطات البحر الميت المزورة.

1. تعترف الأديان الغنوصية بألوهية يسوع المسيح بينما لاتعترف الناصورائية سوى بالحيُّ العظيم إلاهاً واحداً, وحيث أنّ كتاب الكنزا ربا, كان يتكوّن من مجموعة من الدواوين الناصورائيّة السريّة ومن أزمان متفرقّة تصل الفترات بينها لآلاف السنين, وتمّ تجميعها في بدايات الميلاد, وحول هذا الموضوع نجد بأنه كان قد وُضع تحذير من تلك الديانات الغنوصيّة الهجينة وحيث أنها تأخذ جوانب من طقوس العرفان المندائي ومنها طقس الصباغة الذي يُجرى باسم الحيّ العظيم وحده, ولكنها تحرفه ليكون تعميداً يجري باسم المسيح باعتبار المسيح هو المُخلّص, ولهذا فنجد مجموعة من تلك النصوص

بوثة 1* ”ثُمّ تكلّم منداادهيي لجميع نشماثا الناصورائيين الذين تمّ رميهم في الظلام, والذين كانوا قد وُسِموا بوَسم الحيّ العظيم, ولكنهم خرجوا عن طريق الحي, ونزلوا إلى اليردنا بأسم .. غير الحيّ العظيم, فمن سَوفَ يَغفر لهُم خطاياهُم؟” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص235 الأصلية مع الصور المُرفقة.

بوثة 2* ”أنا هو الإله أنا هو أبن الإله وأرسلني أبي إلى هُنا.

أنا هو الرسول الأوّل وأنا الأخير, أنا هو الأب وأنا الأبن وأنا الروح القُدس….

… وبالدم.. وبالماء المقطوع يُعمدهم (تعميد وليس صباغة) ويُحرّف الصباغة الحيّة ويُعمّدهم بأسم الأب والأبن والروح القُدس. ويقطعهم عن الصبغة الحيّة في يردنا الماء الحيّ التي أصطبغت أنت فيها يا آدم” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص44, الأصلية مع الصور المُرفقة.

والدم هو إشارة إلى سر الأفخارستيا أو القربان المسيحي.

بوثة 3* ”وتُحرّف طقوس الرَجُل الغريب, وتَحفُر في الأرض حوضاً, وتَسرُق الماء من اليردنا وتغليه بالنار ثُم تصبّه في الحوض, وتُعمّد به الرجال والنساء وهُم عُراة وتُعطيهم منه ليشربوا, وتذكُر أسم الموت عليهم وتُعمّدهم بأسم الأب والأبن والروح القُدس, وتذكُر عليهم أسم ..” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص210, الأصلية مع الصور المُرفقة.

وهذه البوثة تأكيد آخر بأن هذه الطقوس هي غير مندائيّة وإنما هي من طقوس المجموعات المسيحيّة بعد الميلاد, والتي تَعترف بألوهيّة المسيح وتُحرّف الطقوس المندائيّة.

سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ

المصادر

1. كتاب: The Darkening Age: The Christian Destruction of the Classical World, Catherine Nixey

2. مقالة: قُرب بابل كانت أورشلام, سنان سامي الجادر

3. 5. Torgny Säve-Söderbergh, Studies in the Coptic Manichaean Psalmbook, Cambridge, P216, Note 33

4. مقالة: المسيح الترميدا الناصورائي, سنان سامي الجادر

5 . مقالة: الأستعمال السياسي للأديان التبشيريّة، سنان سامي الجادر

6. مقالة: جميع مخطوطات البحر الميت في متحف الكتاب المقدس مزيفة، By Brigit Katz

7. مقالةاكتشاف زيف 16 جزءا من مخطوطات البحر الميت, RT

8. مقالة: بلاد الرافدين –أصل المندائيين (الجزء الثاني), سنان سامي الجادر

من mandaean