العِلم والمَعرفة أساس المندائيّة

مما لاشك فيه أنّ أوّل الحضارات البشرية هي الحضارة السومرية في وادي الرافدين والتي بدأت في حدود 4500 ق.م, وأستمرت هذه الحضارة العظيمة وأعقبتها الحضارة الأكديّة وبعد ذلك البابليّة والآشوريّة في وادي الرافدين والحضارة الفرعونيّة في مصر, وقد كانت هذه الحضارات هي المَهَد واللبَنَة الأولى التي أنطلقت منها العلوم والإختراعات الإنسانيّة الأساسيّة.

ولكن تلك العلوم لم تكُن قد وَصَلت إلى مرحلة التَخصُص, أي أنّ جميع العلوم كانت مُدمجة مع بعضها البعض فلا يوجد عالم متخصص فقط في الطب أو فقط في علم الفلك أو فقط في العِمارة أو فقط في الإجتماع أو فقط في الفقه وإنما كانوا يحوون جميع هذه العلوم مُجتمعة وفوقها يكون أسلوبهم وتَعبيرهم هو الشعر والنثر والبلاغة والحكمة, ولهذا فكان العُلماء والفلاسفة يحوونها جميعها وبدرجات مُختلفة فيبرعون في البعض منها أكثر من غيرها.

وحيثُ أنّ المندائيين هُم الإمتداد التأريخي لتلك الحضارات العظيمة, فكانت تعاليمُنا تُشدد على وجوب العِلم والمَعرفة في كثير من نصوصها, وحيثُ أنه لم تكن توجد علوم مُتخصصة لكي يتم ذكرها في النصوص وإنما يُشيرون إليها جميعها بالعِلم والمَعرفة.

* ”أنتم أذهبوا وليكُن لِباسكُم الضوء وكسائكُم النور، ولتَكُن ضفائركُم مجدولة في رؤوسكم، وتُسَمَوّنَ برئيس سُلالة الحَيّ.” الكنزا ربا اليمين المندائية خفاجي ودُرّاجي ص238 الأصلية مع الصور المُرفقة

ويوجد تشديد على أن يكون الترميدي أو رجال الدين المندائيين من الذينَ يتميزون بالعِلم والمَعرفة والذكاء, فيصف النَصْ السابق الفِطنة والذكاء بأنه الضوء ويصف التعلّم والمَعرفة بأنه النور (مصدر) ولأنه يقصد بهذه النصوص المعرفة بجميع العلوم وليس فقط في الفقه! وحيثُ أنّ جميع العلوم هي ممتزجة عند الوصول لمرحلة الفلسفة العاليّة التي توجد في النصوص الفقهيّة التي تُحاول وصف الخَلقْ وصِفات الخالق العظيمة والتي هي السبب المُباشر لوجود جميع تلك العلوم والمعرفة.

وهُنالك نَص جميل في الكنزا ربا اليمين وهو النص الخاص بشلماي الذي كان يُريد تاج الملوكيّة من أبيه يثرون الرجُل الكامل ويعني بها أن يجعله رجل دين أو أن يرفع مرتبته الدينيّة, وعندها يبدأ أبوه بسؤاله عن علوم مُختلفة من تركيب الأرض إلى علوم الفَلَك وعلوم الطب وتلك الأسئلة وأجوبتها طبعاً هي رَمزيّة ويعني بها جميع العلوم الطبيعيّة والتي لم تَكُن قد تَخصصت بذلك الوقت وإنما كانت جميعها ومعها الفقه والأدب بنفس الوقت تُعتبر جميعها واجبة لرجُل الدين, وتنتهي القصة بفشل شلماي بالحصول على درجته الدينيّة الجديدة ولأنه وإن كان قد أجابَ جَميع الأسئلة الخاصّة بالعلوم الطبيعيّة ولكنه فَشَل بالإجابة عن سؤال أخير يتعلّق بالمعرفة الناصورائيّة.

ولو بحثنا في الكتب المندائيّة فسوف نَجد العديد من تلك النصوص التي تُشدد على مستوى رجال الدين العلمي والمعرفي وهذه بعض منها

* “في نهاية العصر الأخير, سوف يكون هُنالك من الترميدي (رجال الدين) غير الكفوئين وغير المناسبين, وليس لهُم ألق (تميّز) ولاتقدير ولاطهارة اليردنا فيهم.” من كنزا ربا اليمين خفاجي ودُرّاجي ص283-284 الأصليّة مع الصور المُرفقة.

من النَص أعلاه نجد إشارة على حلول العصر الأخير وهو أنّ بعض رجال الدين فيه سوف يكونون غير كفوئين وليس لهُم تميّز ولاتقدير, ولأن التَميّز والتَقدير هو ثَمرة النجاح الذي يكون العِلم والمَعرفة سببه المُباشر وليس شيء آخر, فكيف يتميّز الترميدي بغير البحوث والمعرفة؟ وفوق هذا فأنهم سوف يكونون بلا طهارة وبمعنى أنهم يرتكبون الرذيلة ويُهانون!

وكيف يَعتقد رجُل الدين بأنه في عصرنا هذا يستطيع أن يُقنع أي شخص بالفلسفة الدينيّة دون أن يكون على الأقل بمستواه العلمي أو يفوقه؟ ولو كان لرجُل الدين هذا مَعرفة وضوء ونور فأنه بالتأكيد سوف لن يكون فاشلاً في تعليمه, وخاصّة أننا في وقت أصبح به التعليم مُتاحاً للجميع في جميع البُلدان, ولانقيس على فترة الإحتلال العُثماني التي أنتهت قبل أكثر من قرن من الآن عندما كان التعليم غير مُتاح ولهذا فكان رجال الدين يُعلّمون أنفسهم ذاتياً.

* ”الحياة للعارفين, الحياة للعُلماء المُتبحّرين, الحياة للذين يُعلموننا” الكنزا ربا اليمين خفاجي ودُرّاجي ص375

وهذه البوثة المُهمّة والتي يتم تكرارها بعد الكثير من النصوص لأهميتها الكبيرة, فهي واضحة في معناها وبأن الحياة تَكون لمن يَمتلك العِلم والمَعرفة ويُعطيها لمَن يَطلِبها.

وهُنا يبرز سؤال حول رَجُل الدين الغير مُتعلم تعليماً عالياً فبماذا يستطيع هو أن يُعلّم وبماذا يَستطيع هو أن يُقنع وكيفَ يَقتنع؟ وبالتأكيد فأن كُتبنا الدينيّة القيّمة والقليلة هي ليست المعرفة الكاملة لا لهذه الحياة ولا للتي تأتي بعدها, وإنما المَعرفة توجد في جميع العلوم والأدب وما يستطيع الإنسان من الحصول عليه بسبب فضوله ومن خبرته في الحياة التي يكون أهم ادواتها هو البحث العلمي واللُّغات والشَغف.

* ” سيمات هيي …
أوضحتُ للترميدي وقُلتُ لهُم:
بأن الكَرمَة التي تَحمل براعم وأغصان سوف ترتفع.
والتي لاتَحمل هُنا سوف يُحكَم عليها.
الذي يبحث ويتعلم سيرتفع مُتطلعاً لموطن النور.
والذي لايبحث ولايتعلم سوف يسقُط في بحر النهاية العظيم.” دراشا اد يهيا

وهذه البوثة من دراشا اد يهيا واضحة أيضاً وبأن الذي لايسعى للعلم والمعرفة فأنه يسقط في بحر النهاية, فلن يكون له ضوء ولانور يُساعدانه على مواجهة التحديات والإختبارات.

ولهذا فقد كان هُنالك تحذير إلى رؤساء المعابد من تكريس رجال دين يفتقرون إلى العِلم والمَعرفة والذكاء والفطنة والنقّاء والأخلاق العاليّة والإيمان, والتي يُشبّه نَصٌ آخر صاحبها بأنه يجب أن يكون مثل الجوهرة.

* ”حديثُ مِنداادهيي الحاكِمُ الذي أتى إلى الدُنيا لكي يُحاسب الكنزبري ..
إحذروا إخواني وإحذروا أحبّائي وأحذروا إخواني من الموت, ففور أن يموت رؤساء المعابد ويفتحوا فَمَهُم ويُغلقوا أعينهُم فسوف تبدأ مُساءلتهُم (مُحاسبتهُم) هُناك” دراشا اد يهيا البوثة مع المُرفقات

سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ

المصادر
مقالة: المَعرِفَة الناصورائية والتعابير المَجازيّة, سنان سامي الجادر

من mandaean