يبرز جدال من وقت لآخر حول إمكانية جعل المندائية دين تبشيري وأن تتَقَبّل أُناس جُدد للدخول فيها, وفي حين إن هؤلاء الأشخاص الذين يُنادون بالتبشير في السر والعَلن لأسباب عديدة, لا يمتلكون أي سابقة تأريخيّة مُشابهة ومُنذ آلاف السنين ولكي يتعكزوا عليها ومُنذ عهد يهيا يهانا والذي كان قد سَمَحَ بدخول بعض اليهود للمندائية, وهو الذي كان قد تَربّى وتَتَلمذَ على يد الملاك أنش أثرا (مصدر1) ومن ثم أرسله إلى أورشليم قرية اليهود لأمر يعلمه الملائكة. 
أمّا الآن وفي عصرنا هذا وبعد الفي عام من يهيا يهانا فلا يوجد شخص بمَنزلته الروحانيّة ولكي يستطيع أن يُنادي بالتبشير مُجدداً, والذي لا قدّر الحي العظيم إن حَدَث ذلك فسوف تكون به نهاية المندائية كدين واحد, وذلك لأن مُعظم المندائيين ومعهُم جميع رجال الدين والمؤمنين, سوف لن يقبلوا به نهائياً وسوف يُنَظِمون أنفسهم عبر قواعد البيانات ويعرفون العوائل الباقية بسهولة. وكما يقول النَصْ من دراشا اد يهيا (مصدر2) والذي يتحدث عن الراعي الذي كانت لديه أعداد كبيرة من الغنم ولكنه لم يكترث لفقدان بعض تلك الأغنام التي ذهبت لتعبد الشمس أو القمر أو الكواكب ولا لتلك التي عَبَدت النار أو المسيح أو البحار أو الأوثان أو الدنيا الفانية أو .. (وهذا يخص المندائيين الذين يتركون دينهم أو ينحرفون عنه لأي سبب), وبعد أن تَبقّى لديه جزء صغير من الأغنام ذهب معها في المخاطر فصَعِدَ الجبال ونزل المنحدرات (وهذه التحديات هي الثبات في الإيمان), وأنتهى بأن تبقّى لديه جزء أصغر بكثير وهُم الذين كانوا صالحين وأجتازوا ميزان أباثر بنجاح, وهذا أنَّ المندائيّة هي دين نوعي وليس كمّي, فهُم لا يكترثون إلى الأعداد المُتبقّية بقدر إحتياجهم إلى مدى الإيمان بالخالق والتعاليم والثَبات الذي يتحلّى به هؤلاء القلّة, وهذه الفلسفة تختلف عن فلسفة الأديان التبشيريّة.

ولكن ولكي تكون النقاط على الحروف فهذه هي أبرز المحاور للنقاش

1. من يقولون بأن هنالك أسباب سياسية كانت تمنع المندائية من تحولها إلى دين تبشيري, فهذا الطرح غير صحيح وذلك بأن الأسباب السياسيّة غير ثابتة طوال الفي عام بنفس المكان وهي تتغير بسُرعة مع الزمن ومن مكان لآخر, وكان يُمكن لأي مجموعة مندائية في مكان آخر أو دولة أخرى لم تكن بها تلك الأسباب السياسية بأن يُبشّروا بالمندائية أو أن يقبلوا حالة واحدة فقط. ولو كان هنالك أي رد وبَدَل بموضوع النصوص التي تمنع التبشير, لكُنّا قد قرأنا شيئاً عن وجود حالات لقبول أناس من خارج المندائية في هوامش الكتب الدينية التي تركها لنا الناصورائيون الأوائل, وهُم الأقدر بفهم تلك النصوص الدينية التي كتبها أجدادهُم وكانت بلُغتَهُم الأم.
2. ولمّا كانت المندائية كأول دين موحِّد, قد ظهرت في وقت كانت تنتشر به عبادة الأصنام والآلهة المُتعددة في بلاد وادي الرافدين, فمن الطبيعي أن تكون هنالك بعض النصوص والتي تدعوا هؤلاء إلى الإعتراف بالحي الأزلي المُتفرّد (الذي ليس له أي شريك), ومن ثُمَّ أتى الذين آمنوا وأصبحوا مندائيين, وهذا كان قبل الميلاد بوقت طويل, ولكن وبعد ظهور الديانات التبشيريّة مُنِعَ الدخول للمندائية ولأسباب عديدة, منها هو *إئتمان المندائيين على المعرفة الناصورائيّة, *كون الديانات التبشيرية لديها طريقها الخاص للوصول إلى مرضاة الخالق, ولديهم تقريباً نفس الأخلاق والمبادئ ولا يحتاجون أن يتحولوا للمندائية من أجل ذلك, *عدم الرغبة بفتح جبهة الحرب على المندائية وحيثُ ان المندائية لو تمّ التبشير بها, فسوف تقوم تلك الأديان المُسيطرة وذات الإمكانيات القوية بالمثلْ وسوف تمحو الفلسفة والدين المندائي, فهذه ليست مسألة صغيرة وحيثُ انَّ التأريخ مليء بالحروب التي كان التبشير الديني هو سببها المُعلن والخفي.
3. وكذلك لو كان كلام الذين يأخذون مقاطع مِن النصوص, ويقولون بعدم وجود المَنع الصريح للتبشير, فهذا بسبب كون مُعظم النصوص المُقدّسة والتي كانت تتوارث شفوياً بين السلالات الناصورائية, قد كُتِبت في بداية الميلاد حفاظاً على أبناء الطائفة من الديانات التبشيرية التي كانت تُهدد الوجود المندائي بصورة كبيرة, ولهذا فإن النصوص تَذكُر هذه الديانات أحياناً وتُشير إليها ضمنياً في أحيان أخرى, ومَن يجتزئ مقطع من نَصْ كامل ربما لن يجد الإشارة الصريحة إلا إذا قرأ النَصوص كاملة, عندها يعرف المقصود. ولكننا لن نقوم بمحاولة إستعراض النصوص التي تتحدث عن تلك الديانات وتُشير إليها, وهذا لكي لا نُعطي هديّة مجانية لأعداء الطائفة الخارجيين (وهُم الذين يُريدون محو المندائية) والداخليين (؟), ولكن موضوع النصوص التي تمنع التبشير واضح ولا جِدال عليه لدى جميع شيوخنا الأجلّاء, ولهذا فهُم جميعاً قد أصدروا البيانات التي تؤكد على عدم جواز التبشير لغير المندائيين, ولا يوجد أي شيخ مندائي يدعم التبشير أو يُنادي به الآن أو نادى به في السابق.

الترجمات العربيّة للنصوص

وعودة للنقاش حول البوث التي أبرزناها من كتاب الكنزا ربا المُعرّب والتي تتحدث عن منع التبشير (مصدر3), فقد وُجِدَ بأن بعض الترجمة العربية غير مُتطابقة مع النصوص الأصلية, وكذلك فإن النصوص الأصلية تُشير إلى الديانات التبشيرية بلُغة ضمنية في بعض النصوص ولكي لا تكون سبباً للإثارة والعداء, وحيثُ أنَّ مُعظم العصور التي عاشها المندائيون كانوا فيها مُضطهدين وهُم بطبيعة تعاليمهم الدينية تُحتّم عليهم أن يكونوا مُسالمين.
ولجميع الباحثين المُحترمين والذين يُقدمون بحوثهم بسبب حُبهم للمندائية, عليهم تجنب كُل ما يُمكن أن يُسيء إلى الطائفة وتعاليمها وعلاقاتها مع الأديان الأخرى والذين نحترمهم جميعاً. ولهذا فقد التزم بهذه المعايير مُعظم الذين ترجموا النصوص الدينية بعد ذلك, فتجنبوا الإشارات الصريحة والتي ممكن أن تؤثر على علاقات المندائيين بالأديان الأخرى, وهذا ليس تحريف بالنصوص وإنما هو المُمكن في عصرنا الحالي, ومَن يُريد أن يتعمق بالبحث عليه تعلُّم المندائية.

لقد كان الهدف الأساسي من إصدار ترجمة الكنزا ربا العربية في بغداد هو مواجهة الهجوم الذي تقوم به الحركات المُتطرفة والتي تطعن بصحّة ديننا وتديننا (مصدر5), ولم يكُن الهدف من إصداره هو جعله مصدراً أساسياً للبحوث, بقدر توفير المعرفة المندائية للجميع بصورة مُبسطة ومقبولة المفاهيم للعامّة (مصدر4), وكذلك فقد تم تَجنُب ترجمة أي إشارة أو نَصْ قد تُسيء إلى علاقة المندائيين مع الأديان الأخرى, بسبب كون المندائيين مُسالمين ولا يسعون للحروب.
وقد تمّت ترجمة كتاب الكنزا ربا للعربية من قبل لُجنة من المندائيين العارفين باللغة مع أساتذة جامعيين في اللُغة الآرامية, وبعد أن أكملوا الترجمة الحرفية, وجدوا بأن النصوص لن تكون واضحة المعاني بالشكل البيّن لمفاهيم عصرنا الحالي, وكذلك بسبب كون اللُغة الآرامية أصغر من اللُغة العربية برَقَم كبير, وهو الذي يجعل نقل المعنى الأصلي صعب جداً ويحتاج لتحليله كلمة كلمة ولمعرفة درجتها والمقصود بها بالضبط وما يُقابلها بالعربية فهذه أسرار ناصورائيّة, وكذلك فقد وجدوا بأن نُسَخ الكنزا ربا المُختلفة لا تتطابق حرفياً في جميع النصوص وهنالك بعض الزيادة والنُقصان والأخطاء, وهذا الموضوع طبيعي ومنطقي ولو تطابقت جميع النصوص لقُلنا بأنها حديثة وليست قديمة, فنحنُ نتحدث عن نصوص نُسِخَت يدويّاً لمصادر منذ آلاف السنين وكانت تُنسخ مراراً وتكراراً من قبل رجال الدين ومن يَخلفهم على أوراق البردي.

ولهذه الأسباب جميعها, ونتيجة لمحاولات جعل النصوص المُترجَمَة تُحاكي مفاهيم عصرنا, فقد تمّ حذف بعض النصوص التي لم يفهموا القصد منها أو كانت مُكررة ببعض التفاصيل أو غير مُناسبة لمفاهيم عصرنا العلمانية أو ليس في مصلحة الطائفة إثارتها, وأصبحت بعض البوث المُترجَمة لاتنطبق حرفياً مع النَصْ الأصلي, ولهذا فيُشرّع ويَحتكم ويَبحث رجال ديننا بالبوث المندائيّة الأصلية فقط.

وقد قام الشاعر المندائي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد (رواه نهويلي) بعمل الصياغة الأدبية للنصوص المُترجمة, وهو يشرح السبب للعلن حول جعله الترجمة على شكل سجع (وهو ما يُميز الكلام الجميل فتتوافق فواصل الكلام على نفس الحديث) ويقول بأنه يُريد كتاباً يقرأه الجميع بمُتعة فلسفية, وأن يُبرِز جمال الفلسفة المندائية وإعطائها الوهج (مصدر5).

سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ

المصادر
1
دراشا اد يهيا ص102 ترجمة الأستاذ أمين فعيل وصياغة أدبية سميح داود سلمان, النَص الأصلي مُرفق
2
دراشا اد يهيا ص40-41 ترجمة الأستاذ أمين فعيل وصياغة أدبية سميح داود سلمان, النَص الأصلي مُرفق
3
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=779671232415933&id=758518667864523&__tn__=K-R
4
https://www.facebook.com/sinan.jader/posts/10217423886417032?hc_location=ufi
5
https://www.youtube.com/watch?v=QvNtFgdrmeM