الأستعمال السياسي للأديان التبشيريّة:-
لقد كانت الحروب الإستعمارية مُنذ الأزل هي المُحرّك والمُسبب لنشوء الممالك والإمبراطوريات الكبيرة, وكانت السُلطة التي تُعطيها هذه الممالك لقادتها منوطة بمدى تمتعهم بالشعبيّة بين أوساط الجماهير والجيش.
أنَّ حصول الملك أو الحاكم على الشعبيّة وعلى حُب رعيّته كان يعتمد على عاملين أساسييَن وهُما
1. مقدار الأموال التي يدفعها للجيش ومقدار الضرائب التي يفرضها على الرعيّة.
2. تمتُع الحاكم بصفات القائد الحقيقي مثل الشجاعة والوفاء والإخلاص لشعبه وغيرها من الصفات العالية.
ولكن كانَ هُنالك عامل آخر وأعطيت له أهميّة أكبر من كُل ماعداه, وهذا كان تمتُّع الحاكم بالقُدسيّة الدينية وكأن يكون مُمثّلا للإله ومُعيّناً من قِبَله أو في حالات أُخرى يكون هو الإله نفسه. وعندها فسوف يخضع لهُ الشعب ويدفع أي ضريبة يفرُضها, وكذلك فسوف يكون الجنود مستعدّين للتضحية بحياتهم في سبيل مَلِكَهُم وإلههم.
ولهذا فقد حَرَصَ الحُكام ومُنذُ القِدَم على التمتُّع بصفة دينية ولأنها سوف تكون الحصانة القصوى لهم من أي تقصير وتُعطي لهم الشعبية الطاغية مهما كانت الظروف. ولكن في زَمَن الآلهة المُتعددة كان لكُل مدينة آلهتها الخاصّة, وبالتالي فغزوات المُدن فيما بينها كانت تتأثر بسُمعة آلهة تلك المدينة, ولكنهم لم يكونوا معنيين بتحويل سُكان المُدن المُحتلّة إلى ديانة آلهتهم ولأنهم يعتبرونها ميزة خاصّة بهم وبمدينتهم الأم, أو أنّ البعض من تلك الديانات كانت تخص قوميّة مُعيّنة وبعضها كانت ديانات نخبويّة تخص فئات وطبقات مُعيّنة من المُجتمع مثل طبقة الكهنة, والبعض الآخر كانت دياناتهم لا تقبل سوى الأشخاص الذي يبدون إيماناً بها وينجحون بالإختبارات قبل أن يتم قبولهم, أي أن تلك الديانات القديمة كانت غير تبشيريّة ولا تسعى إلى كسب الناس بالترغيب والترهيب.
وفيما بعد وعند ظهور الديانات التبشيريّة الشاملة, قامت بمزج العبادة بالسياسة وأصبَحَت مثل الرِباط الوثيق الذي يتم به تقييد جميع السُكّان وجميع أجزاء المملكة بما فيها المُدن المُستَعمَرة إلى سُلطة الحاكم, وكان عِقاب الخروج عن سُلطته أو عِصيان أمره يؤدي إلى العقوبة القصوى ولأنها سوف تُعتَبر خروجاً عن السُلطة الإلهية الممنوحة بواسطة الديانة الشاملة والتي أعترف بها الجميع طوعاً أو قسراً. وهو كان سبب الوحشيّة القصوى التي أستخدمتها المؤسسات الدينية التبشيرية لتصفية كُل من لا يعترف بالدين الرسمي أو يُحاول حتى الإجتهاد أو التفسير فيه, فكان كثير من المُفكّرين والفلاسفة والعُلماء ينتهون في السجون أو يكون القتل مَصيرهم, ولأنه سوف يُنظر لهم على أنهم يسعون لعَمَل تحريف ديني قد يؤدي إلى إضعاف السُلطة المُطلَقَة للحُكام والمُعطاة لهم بواسطة المؤسسة الدينية الحاكمة.
وكانت المسيحيّة هي أكثر الديانات التبشيرية التي أستُغلّت من قبل الحُكام لبسط نفوذهم وتوسيع سُلطانهم, وتعاملت بعُنف, وكانت سُلطتها الدينيّة تُلاحق كُل من يدين بديانة أخرى وكُل من يمتلك كتاباً دينياً غير مُجاز من الكنيسة, وفقط في عام 1834 تمَّ إلغاء محاكم التفتيش الكاثوليكية التي كانت مسؤولة عن تنفيذ تلك الأوامر.
وأمّا الدولة الإسلاميّة فسَمَحت لأتباع الديانات المذكورة في القُرآن (المسيحيّة, الصابئيّة واليهوديّة) بأن يبقوا في دينهم على شرط دَفع الجزية, وهي الضريبة المالية السنويّة التي يدفعها أهل الذمّة من الغير المُسلمين والذين يعيشون في بلاد إسلامية, ومع ذلك فكان هذا الحق بعدم التحوّل للإسلام يخضع لأهواء الحُكام والسلاطين وأجتهادات رجال الدين المُسلمين في الأزمنة المُختلفة, وبالمُقابل فكان أهل الديانات المذكورة لا يشتركون في الحروب التي تقوم بها الدولة الإسلامية وذلك لعدم الوثوق بولائهم ولأن تلك الحروب كانت تَحمل صبغة دينيّة.
ولكن أشتَرَكَت جَميع الحركات الدينية التبشيرية في رفض ما سِواها من الفلسفات والأديان وهذا كانَ يتم عن طريق حرق الكُتُب (مصدر1) وحتى تدمير الآثار القديمة أومَسح الكتابة المنقوشة عليها في حالات أخرى. ولهذا فقد ذابت كثير من تلك الديانات القديمة وأندثرت, وفي عصرنا هذا الذي تتسابق به الديانات الكبيرة على بسط هيمنتها الدينيّة السياسيّة على باقي البشر, أصبح وجود ديانة غير تبشيريّة بحد ذاته خارج عن المألوف.
أن الأديان التبشيريّة وحتى عهد قريب كانت تُمثل الرابط الذي يجمع أبناء البلد ويوحدهم وأنّ قوّة الحُكُم تُستمد من قوّة الدين ورجاله كما أسلفنا, ولهذا فكانت تلك الديانات لاتقبل التعددية الدينية ولا الفكرية ولأنها في حقيقتها أنظمة سياسية إيديولوجياً أيضاً وليست دينية صافية النيّة للعبادة.
ولكن في العصور الوسطى ثار الناس في أوروبا ضد إستغلال الدين بواسطة الحُكام ووضعوا نظاماً علمانياً يعتمد على الديمقراطية, والتي سُرعان ما سيطرت عليها نفس تلك المُنظمات الدينية التي يلعب بها اليهود دور القيادة, وأنتهت بسيطرتهم التامة على القطاع المالي والإعلامي العالمي والذي بدوره يُسيطر على الديمقراطية في تلك الدول الغربية.
وفي هذا العصر وبعد إنتشار العلمانيّة وثقافة فصل الدين عن السُلطة بحُكم سهولة التواصل بين الناس, فقد قامت المؤسسات الدينية السياسيّة بتحديث نفسها أيضاً والإختباء من الحُكم المُباشر إلى الحُكم المُستتر, والذي يعتمد على دعم مُنظمات داخل تلك الدول وتقوم هذه المُنظمات بالسيطرة على الأحزاب السياسيّة وعلى المؤسسات الأمنيّة بمعزل عن نظام الدولة المركزي, وللمُتتبعين عن أسباب حرب العراق (مصدر2) ومُعظم حروب الشرق الأوسط, فأن الأحقاد التاريخيّة والأساطير اليهوديّة في العهد القديم كانت هي المُحرّك الرئيسي لها.
أنَّ الإختراقات اليهودية لجميع الأديان هي كبيرة ومستمرّة منذ القِدَم ولغاية الآن, وأنَّ الدول الغربيّة التي تَحكُم سيطرتها ونفوذها على مُعظم بقاع الأرض في زمننا هذا, تَحكُمها وتُسيطر عليها مُنظمات سياسيّة ذات إيديولوجيّة يهوديّة-مسيحيّة, وهذه المُنظمات لا تقبل بالتشكيك في رواياتها الدينيّة والتأريخيّة ولهذا فأن مُعظم المصادر التأريخيّة والدينيّة بعد القرن العشرين تم التلاعُب بها لهذا الغرض. وأنّ وجود تلك المنظمات اليهوديّة المسيحيّة الحاكمة في أوروبا وأميركا يُفسّر أيضاً صلة القرابة بين مُعظم ملوكها ورؤسائها والنفوذ الغير منقطع لبعض العائلات المتنفّذة فيها منذ قرون ولغاية الآن (مصدر3&4) ولأنه يجري تعيينهم ودعمهم من قبل تلك المنظمات! وما كانت الدساتير المدنيّة في الدول الغربيّة بالحقيقة إلا لباساً شكلياً مثالياً وأمّا الحقيقة فهو بوجود الدولة الدينيّة اليهوديّة-المسيحيّة العميقة الواحدة لجميع تلك الدول وهي الحاكمة والآمرة الناهية فيها.
وحيثُ أن الإستراتيجية اليهودية قد كانت مُنذ الأزل تعتمد على أن تخترق الرأس وهو نظام الحُكم في الدول والإمبراطوريات المُسيطرة عالمياً وتتحكم بها إقتصادياً وفكرياً وسياسياً, وبعد ذلك تسعى للسيطرة على العالم من خلال القوّة والنفوذ العسكري لتلك الإمبراطوريات, وهذا الدور كان مُنذ عهد الإمبراطورية الرومانية والفارسية وصولاً إلى الولايات المُتحدة في يومنا الحالي وسيطرتهم الكاملة على مؤسساتها الإقتصادية والأمنيّة والسياسيّة, وللمتتبعين سياسياً فأنهم يعلمون جيداً بكون المصالح اليهودية الصهيونية في أميركا هي فوق المصالح الأميركية نفسها, والطائفة اليهودية هُناك هي فوق الأميركان أنفُسهم وهُم المساكين الذين يعملون لدى شركات أولئك في داخل أميركا.
وكذلك فأنّ مُعظم السياسيين ورجال الدولة البارزين في أميركا والدول الأوروبية يتسابقون للذهاب إلى إسرائيل لتقديم ولاء الطاعة والتعهّد بتنفيذ الأوامر, قبل تسلّمهم لأي منصب في بلدانهم. وإن كان هُنالك قادة شُجعان يُقدّمون كرامتهم ومصلحة بلادهم على الخضوع لتلك المنظمات مثل أولوف بالمة وآنا ليند في السويد وجون كينيدي في أميركا وغيرهم, فهؤلاء يَلحقون ربّهم بسرعة!
وللمُتتبعين لمسيرة الأديان خلال العقود القليلة الماضية, فأنه سوف يُلاحظ تزايد مُستمر بعدد الحركات المسيحيّة ذات الإيديولوجيّة التي تُعظّم اليهوديّة في أوروبا وأميركا, وبالمقابل تزايد بعدد الحركات الإسلاميّة السنيّة والشيعيّة الجهاديّة ذات الأهداف الإستعماريّة السياسيّة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى وحيثُ تُعظّم أحدها نفوذ إيران التوسّعي فأن الأخرى تُعظّم نفوذ تُركيا, وأنّ جميع تلك الحركات هي تتبع لتنظيمات سياسيّة مُرتبطة بمصالح أفراد وقوميات ومنظمات إستخباريّة دوليّة, وليس لها دخل بعبادة الخالق ولا بأخلاق تلك الديانات وإنما يتم أستغلال الدين وتشويهه من قبل تلك الحركات السياسيّة المُختبئة في الصليب والعِمامة.
لا يوجد شك في أنّ الغالبيّة العُظمى من أفراد الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة هُم مُعترفون بفضل الخالق, وأنّ عبادتهم صافية النيّة وهي أعترافاً بإيمانهم وإلتزاماً منهم بأخلاق الدين, ولكن ولكي يحققوا هذا الهدف فربما هُم يحتاجون في عصرنا هذا لأن يرموا عن أكتاف دياناتهم تلك الحركات السياسيّة التي تستغل المؤمنين منهُم, وأن يمنعوهُم من تشويه تلك الديانات وأن تعود العبادة كعلاقة قائمة بين الفرد وربّه ولا تحتاج إلى رجال دين يصبحون وسطاء بينهم, ومن ثُمّ يُحرّفون التعاليم والعبادة لغرض تجييش الناس ضد الناس والدول ضد الدول. أنّ أستغلال الحركات السياسيّة لتلك الأديان وطوائفها قد أرتفع إلى مرحلة خطيرة تُهدد معها بأشعال حروب مدمّرة سوف تنتشر نيرانها إلى جميع بقاع الأرض, وأصبح الآن الوضع متأزماً جداً بين تلك الأديان الكبيرة, وحتى بين طوائف الدين الواحد نفسه! وهذا الوضع سائر نحو الصدام الحتمي ما لم يُبادر المؤمنون الحقيقيون بتلك الديانات إلى بدء الحوار الصريح لنزع تلك الأحقاد ولسحب البساط من تحت الحركات السياسيّة التي تستغل أديانهم.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
المصادر
1. مقالة: حرق الكتب .. «جريمة ضد الإنسانية» قيدت «ضد مجهول»، محمد طيفوري، جريدة الإقتصاديّة
2. مقالة: دَمروا بابل وآشور.. ورقصوا، سنان سامي الجادر
3. كتاب السرّ الأكبر, ديفيد إيكه