الآثار المندائيّة المُهمّشة والمنهوبة
تسعى كل من الديانات التبشيريّة لأن تكون ذات تفرّد وخصوصيّة, وأن تكون فلسفتها التي تعتنقها هي الفلسفة الوحيدة الصحيحة وكل ماعداها فهو باطل. وهذا طبعاً لأنها كانت قد مَزجت السياسة مع تلك الفلسفة فأصبحت وسيلة للسيطرة على الشعوب أيضاً وليست للعبادة فقط (1). وسوف يستمر الصراع بين تلك الديانات وحتى بين الفرق المنشقّة داخلها. ولن يتوقف أبداً ما دامت أولوياتها قائمة على التوسّع وإدخال باقي البشر ضمن فلسفتهم الواحدة. وخاصّة بوجود قوى خبيثة تُتاجر بالحروب لتستفيد فتدفع المتطرفين منهم للهجوم على الآخرين.
هذه المقدمة هي ربما تُجيب عن السؤال المتعلّق باختفاء الآثار المندائيّة. وبأنها أمّا مخفيّة في سراديب المنظمات والمتاحف التي يسيطرون عليها ويتجنبون عرضها. أو أنها تتعرّض للتزوير أو للتهميش وعدم التنقيب في تلك الآثار (2). والمندائيون هم طائفة صغيرة لاحول ولا قوّة لها. فليست لهم مؤسسة تستطيع أن تقوم بعملية تصوير وأرشفة الآثار المندائيّة الموجودة حالياً في المتاحف. ولا يوجد مسؤولين مندائيين حقيقيين ليقوموا بهذا العمل.
وبالتالي فأن الذين يسألون عن أقدم النُسخ للنصوص المندائيّة المُكتشفة, فهي تلك النصوص المعدنيّة التي لا تتلف من الرصاص والنحاس وحتى من الذهب والفضّة. وهي تعود لفترات ما قبل الميلاد. ولم تتم محاولات لفحص تواريخ المُكتشف منها بالكربون المُشع ولم تتم أية محاولة حقيقية لتحديد أعمارها. ولكنهم يعطون التواريخ حسب ما يناسب رواياتهم الدينيّة وحسب ما يشتهون. فيقولون بأن أقدم النسخ المعدنيّة للنصوص المندائيّة تعود للقرن الثاني الميلادي, وهذا ما كان البروفسور ياموجي قد وضّحه في كتابه (غنوصيّة ما قبل المسيحيّة) فقال بأنهم لم يفحصوا تلك المخطوطات بالكربون وأن ماكوخ وليدزبارسكي اللذان فحصا تلك المخطوطات قد أرجعا أقدمها للقرن الثاني الميلادي. ثم أستدرك ماكوخ وقال بصعوبة إعطائها تاريخاً محدداً (3). وموضوع الحياديّة طبعاً هو غير ممكن لهم لأن إعطائها تاريخاً لما قبل الميلاد. سوف تترتب عليه تبعات تخص الديانة العالميّة الأكبر والمسيطرة على معظم بقاع الأرض. والتي كان ولا يزال اليهود يضعون أنفسهم قيّمين عليها.
المفارقة هي أنّ الباحثين اليهود يعلنون للمجتمع الغربي ويصرّون على أعتبار كون المندائيين منشقين عنهم, وينشرون الإشاعات عن ذلك. وقد بينّا زيف ذلك الادعاء في بحث سابق (4). والسبب هو ليس حباً بالمندائيين وإنما ليهيمنوا على جميع الآثار والبحوث المتعلّقة بالدين المندائي, ولكي يلغوا أسبقيته عليهم فيصبح التاريخ والدين المندائي جزء من تاريخهم ودينهم. ويقومون بأخفاء الآثار المندائيّة, بكون المتاحف ومراكز الآثار توظّف باحثين يهود حصراً بما يخص الآثار والبحوث المندائيّة. يساعدهم في ذلك فهمهم للّغة المندائيّة التي هي صيغة نقيّة من اللّغات التي أسموها هم نفسهم بالآراميّة. حيث تختلف العبريّة عنها بكونها تحتوي على مصطلحات من لغات أخرى تُضاف لمفردات اللّغة المندائيّة الرافدينيّة, وذلك لأنها لغة هجينة بسبب تنقّلهم أثناء هجراتهم البدويّة.
وفي الصورة مجموعة من النصوص الدينيّة المندائيّة القديمة والمكتوبة على الألواح المعدنيّة التي أعادها الإنتربول للعراق بعد مصادرتها من مزادات اليهود في أميركا (5). نلاحظ بأنهم وضعوا ثمناً مقداره ثمانية آلاف وخمسمائة دولار فقط لتلك المخطوطات الثمينة. لأنهم يحاولون التغطية على قيمتها الحقيقيّة فلا يريدون لأحد أن تستهويه فيشتريها, فهم المشترون الوحيدون لآثارنا التي تُفنّد رواياتهم بالتوحيد والسبق الديني والفلسفي.
ونذكّر أيضاً بأن مُعظم الأماكن الآثارية الخاصّة بالمندائيين في ميسان وغيرها من المدن الرافدينيّة القديمة هي غير مُكتشفة لغاية الآن. ويوجد في العراق خمسة وعشرون ألف موقع أثري جميعها بدون حماية من النهب (6). وكذلك يوجد أكثر من 3600 موقع أثري للحضارات القديمة في العراق لم يتم التنقيب فيه ولم يُصنّف لغاية الآن.
ولهذا فأن الفلسفة المندائيّة بقدمها الذي يتعدى كل ماعداها من الأديان الحاليّة, كانت هدفاً مستباحاً من ناحية تحريف التعاليم والترجمات وتزوير الأدلّة والطعن وكذلك التهميش لعمقها الديني والتاريخي. وأنّ جميع الآثار المندائيّة المعروضة حالياً للبيع في أي من المزادات الغربيّة, هي مسروقة ويجب تبليغ الإنتربول عنها.
أكثر من لعب على هذا الموضوع هي المنظمات الصهيونيّة التي استحوذت على معظم الآثار المندائيّة. وخاصّة بعد أحتلال العراق من قبل الولايات المتّحدة التي يسيطرون عليها كليّاً. فقاموا بعمليات نهب منظّم لكثير من الآثار الرافدينيّة, ومن ضمنها الآثار المندائيّة ونقلها لإسرائيل ومن ثم بيع الزائد منها بالمزادات العالميّة. ومنها عملية مفضوحة سُميت بنقل الأرشيف اليهودي. وآخر عملية لهم كانت تخص سبعة عشر الف قطعة أصلية من آثار بلاد الرافدين المسروقة والتي ضُبطت في مخازنهم في أميركا (7). وبعد صراع مع الإنتربول الذي سلط الضغوط اضطروا لأن يعيدونها. ولكنهم قاموا بتلك العملية بعد أن عملوا نُسخ مُقلّدة لجميع تلك القطع! بحجّة أستخدامها للتوثيق والتصوير. مما يُعطي الشك بكونهم قد أرسلوا النُسخ المزيّفة بدل الأصليّة للعراق. وخاصّة إنها أرسلت إلى أربيل وليس إلى بغداد. ولم يُعلن المتحف العراقي أو هيئة الآثار بأنهم قد أستلموا تلك القطع أو كشفوا عليها. سوى قطعة واحدة تخص ملحمة كلكامش كانت قد استُخدمت لذرّ الرماد في العيون.
سِنان سامْي الشيخ عَبد الشيخ جادِر الشيخ صَحَنْ
1. مقالة: الاستعمال السياسي للأديان التبشيريّة, سنان سامي الجادر
2. مقالة. مملكة ميسان, علي كاظم داوود
3. كتاب غنوصيّة ما قبل المسيحيّة. ياموجي
Yamauchi E.M. – Pre Christian Gnosticism. A Survey of the Proposed Evidences. P127
4. مقالة: بلاد الرافدين -أصل المندائيين (الجزء الثاني), سنان سامي الجادر
5. مقالة: استرداد الآثار العراقية.. واشنطن تسلم 5 قطع أثرية لبغداد, سكاي نيوز عربية
6. مقالة: منقب آثار: أكثر من 25 ألف موقع في العراق ومعظمها بلا حماية, علي قيس
7. مقالة: أين آثارنا الرافدينيّة المنهوبة؟ سنان سامي الجادر